يبدو أن نظرية المقارنة أو ثقافة المفاضلة بين الأفكار والبشر، لا تكاد تُغادر مشهدنا الإنساني والتراث الحضاري، خاصة في الأفكار والأحداث الجدلية والصدامية، لأنها -أي نظرية المقارنة- أشبه بمصيدة لا يمكن الافتكاك من حبائلها أو تداعياتها. ولكن يبدو أن حتمية المقارنة في بعض الأحيان، شر لابد منه للوصول إلى بعض الغايات والقناعات التي يمكن البناء عليها والانطلاق منها، بعيداً عن الحدية والتزمت. إن مصادر المعرفة والثقافة بنسختها التقليدية والتي استمرت لعقود طويلة، كانت ومازالت ولو بشكل أقل عنوان مرحلة معقدة تواجه الكثير من المتغيرات والتحديات، لتبدأ مرحلة جديدة تختلف كلياً عن كل الأشكال والتفاصيل الكلاسيكية، مرحلة يمكن عنونتها ب"الشاشة اللحظية". المقارنة بين مصادر المعرفة والثقافة بين زمنين أو شكلين، قضية معقدة وشائكة، ولكنها ضرورية وملحة. في العقود الماضية، كانت الأجيال المتعاقبة تستمد أفكارها وثقافاتها وآدابها وعلومها وفنونها وكل تفاصيلها الأخرى من المصادر والمراجع التقليدية كالتلفزيون والإذاعة والصحيفة والمجلة والكتاب والموسوعة والندوة والمحاضرة وغيرها من الأشكال والنماذج التقليدية التي كانت تتصدر المشهد. أما الآن، بل ومنذ عقدين من الزمن تقريباً، تصاعدت منافسة شرسة لتلك المصادر والمنابع والقوالب، معلنة ظهور فرسان جدد وهم وسائل ووسائط وتقنيات العصر الحديث والذي تقوده عولمة كونية حوّلت هذا العالم الضخم قريةً صغيرةً، برزت فيها حالة إنسانية عالمية واحدة، وتحطمت على أعتابها كل الحواجز والحدود، وتضخمت الأنا الاقتصادية والنرجسية الرقمية، لتتشكل مرحلة جديدة تُهيمن فيها ثقافة المال وقيادة الإعلام. هذه المصادر والوسائل المعرفية والثقافية الجديدة والتي تقودها شبكات ومنصات التواصل الاجتماعي، هي العنوان الجديد والوجه الحديث للفكر الجمعي والمزاج العام لكافة البشر، لاسيما الأجيال الصغيرة والشابة والتي تُمثّل النسبة الكبيرة في أغلب دول العالم. وخلاصة الكلام حول هذه المقارنة والمفاضلة بين مشهدين ومرحلتين: كل مرحلة مكملة للأخرى، ولا يوجد إلغاء للمشهد السابق، مهما كانت التطورات والتحولات، فكما لم يُلغ التلفزيون الإذاعة التي تعيش الآن عصراً مبهراً، والكلام كذلك ينطبق على الإعلام الجديد والكلاسيكي والثقافة والأدب والفن وكل المجالات والقطاعات على مر العصور والأجيال.