للناس نجوم يختلف بعضها عن البعض، فمن الناس من يسافر فتكون النجوم مرشدات له، ومن الناس من لا يرى في النجوم إلا أضواء ضئيلة، «اقتباس من الأمير الصغير». هكذا هو عقل الإنسان في الاهتداء لضالته الفكرية متطرف في صراع رغباته الإنسانية الوجودية، متقادم تارة وأخرى تائه بين مستقبله المجهول وماضيه. خياله فسحة النجاة للابتكار، وتحقيق أحلامه هو أمله الدائم منذ فجر الحياة، فما عجز عن تحقيقه سلّط عليه الخيال، فتصور المارد وبساط الريح وطائر العنقاء وكثيرة هي الأساطير والقصص التي تدور في فضاء خياله ما بين ألف ليلة وليلة وحكايا معروف الإسكافي وحسن البصري ورحلات السندباد. إن الخيال هو إحدى قوى العقل التي يتخيل بها الأشياء في أثناء غيابها، بل هو قوة باطنية قادرة على الابتكار والخلق. وفي الأدب هو حسن التعليل والروح التي يتوهج بها النص الأدبي والقدرة على اكتشاف الجديد الذي يوازي الواقع، فيحلق الكاتب من خلاله لأقصى مداه فينسج من أدواته اللغوية ملامح شخصياته المبتكرة ليرسم صوراً وأخيلة تتراءى في نفسه. إن هذه الصورة الذهنية للتجارب الإنسانية السابقة من مشاهد خيالية تغذي الأعمال الأدبية في صور شتى ما بين قصص سردية وكتابات روائية وأوهام الخيال العلمي المعاصر وأساطير وأشعار. لوهلة من عمر الزمن تتساوى بها الحقائق والذكريات والخيالات، نقوم بعمل – فلاش باك – ونتوقف لنلتقط الصورة العالقة بأذهاننا لذلك الطفل الصغير الذي يقطن على كويكب صغير يعرف باسم (بي 612) حزين وحيد لا صديق له سوى زهرة حمراء يعتنى بها، فيقرر أن يسافر عبر الكواكب لاستكشاف بقية الكون ويدهشه ما يصادفه من أحداث على كوكب الأرض. إن أسلوب الرواية الخيالية فريد من نوعه في استعمال الاستعارات والصور الفنية وبراعة الحوار الفلسفي المدجج بأسئلة وجودية بين الشك واليقين، برمزيات الحب والبراءة والبصيرة الطفولية، فكان الخيال هو المتصدر الحقيقي للاستكشاف وتحقيق الفضول المعرفي لدى المرء. وهنا تكمن متعة الخيال أن نتخيل ما نرغب فيه، ونرغب فيما نتخيله، وأخيرا نصنع ما نرغب فيه. إن هذه القدرة الذهنية على الربط بين أجزاء المعلومات في أنماط ومفاهيم متنوعة يغذي الخيال بمجموعة من الأفكار والخيرات الإعجازية، حيث يمكن لنا أن نرى العالم من خلال منظور الآخرين. وهذا ما نجده ماثلا في شخوص فرناندو بيسوا التي صنعت أنموذجا أدبيا إعجازيا فريدا لحيوات وكتابات شخصياته الأربعة، وهذا ما يحيلنا لنتيجة تدير العقل من كون الأسماء المستعارة التي نسجت في خيال الكاتب المتطرف قادرة على العيش والتماهي في أحداث الحياة لوقتنا الحاضر بعد وفاته. كان بيسوا شخصية متشظية منقسمة على ذاتها مخبوءة بالأوجاع ضائع بين فجوات الزمان والمكان، فكان يعيش اللحظة من خلال خياله في وقت واحد، وقدرته على عيش حياة الآخرين في أوقات متعددة. فيا ترى من هو الواقعي؟ ومن هو المتخيل؟ وفي رحلة الخيال نحاول إيجاد المستقبل الحسن الذي عرف بيوتوبيا المثالية في القرن السادس عشر حيث يقول أناتول فرانس: «لقد كان إنشاء أول مدينة خيالا من أخيلة المفكرين، فالخيال هو مبدأ التقدم»، فنجد توماس مود وجزيرته المثالية الذي يعمل أهلها بالزراعة والصناعة ليس بينهم أمراء ولا شحاذون ولا يعفى من العمل سوى القضاة وطلاب العلم وكل هذا ضرب من فنون الخيال لا يجد له في الواقع موطن قدم، ولا تغيب عنا المدينة الفاضلة لابن خلدون ومدينة الشمس التي تشبه جمهورية أفلاطون. باعتقادي إن أهم فترات التاريخ الفترة الحالية، حيث نشهد ثورة مبهرة في حياة البشرية، وقفزات سريعة نحو التغير، التلاحق المستمر لاستشراف المستقبل، فأصبح الواقع أغرب من الخيال والتنبؤ بالمستقبل ليس تجديفاً عبثياً في زوبعة في فنجان أو الاستغراق في أحلام اليقظة. إنما هو زمن التنبؤات الاستقرائية للاتجاهات التي يفترض أن تسير بها الأحداث، من خلال سبر أغوارها العلمية والاجتماعية والاقتصادية. وهكذا استمر الخيال بشكل جديد يهيمن على الأدبيات التي امتزجت بالنبوءات العلمية والخيال الأدبي، علماً أن المهمة العقلية هي أن نتعلم لنفكر بطريقة دينامية وعقلانية لا بصورة راكدة، وأخيراً إن الخيال أهم من المعرفة.