تركي العطيشان.. شخصية قيادية من الدرجة الأولى عرك الحياة منذ بواكير شبابه مع العقيلات، فالعقيلي معروف بالصبر والمصابرة وقوة التحمل على المشاق والصعوبات، تعلم من مدرسة العقيلات تحمل المسؤولية وزرع الثقة بالنفس وحياة الجد ومعاناة الترحال والتنقل بين أرجاء الأقطار العربية، لهذا تولى منصب قيادي وهو خفر السواحل بعمر صغير، حيث لم يتجاوز 16 عاماً، وكان هذا السن في زماننا هذا لا يزال صغير جداً، ولا يتحمل أي مسؤولية، وليس سن عمل، لكنها في ذاك الزمان تعتبر عُمر للتحمل والمسؤولية، ويعتمد عليه في المهمات، لا سيما إذا كانت له تجارب سابقة، فالعطيشان عُرف بالحكمة والتأني في إيجاد الحلول للمشكلات التي تواجهه في أعماله الرسمية، ومن حسن فأل شخصيتنا أنه كُلّف بمهام من قبل الملك عبدالعزيز -رحمه الله- حينما كان مسؤولاً في شرطة الرياض، وكسب من خلال هذه المهام الرسمية تجارب إدارية وكيفية التعامل مع أنواع القضايا. وُلد تركي بن عبدالله العطيشان 1330ه في بريدة، وقد توفي والده في الكويت، وكان ذو أربعة أعوام، ويكبره أخوانه محمد وعبدالعزيز وهما اللذين استمرا في التجارة، تعلم شخصيتنا في بريدة في الكتاتيب القرآن الكريم، يقول الباحث بندر بن خالد العطيشان في كتابه عن جدّه تركي: أما المدرسة الأهم والتي التحق بها تركي فكانت مدرسة "مزنة العطيشان" الأم، التي عزّزت في ابنها مكارم الأخلاق، ففي كل مرة يحسن ابنها التصرف أو يجود باليسير الذي في حوزته على من هم في حاجة، كانت هذه المرأة حكيمة تكتفي بإظهار نظرات الاعتزاز والتأييد. تعلم تركي العطيشان التجارة في مسقط رأسه من خلال تجارة القماش كما يذكر الباحث بندر العطيشان، وهكذا كانت بدايات هذه الصبي الصغير في عالمه المحدود ببريدة، ومنها انطلق محلقاً في عالم العقيلات، وبيئته بريدة تجارية منذ القدم، لذلك نشأ أبناؤها على تعلم التجارة، مستمدين من آبائهم هذه المهنة التي جعلتهم يمشون في مناكب الأرض ليأكلوا من رزق الله، فوالده كان تاجراً وأخوانه كذلك. ذكاء وفطنة كان تركي العطيشان -رحمه الله- شاباً طموحاً يحلم بأن ينضم إلى العقيلات، ولأن بريدة كانت منطلق بعض العقيلات إلى الغربية، كان يسمع ويشاهد أخبار وقصص ومواقف العقيلات -عقيلات بريدة- في مجالسهم وفي أسواق بريدة ودماء العقيلات تجري في دمه، فوالده عقيلي ومع قرب موسم ارتحال العقيلات في الشتاء التحق تركي العطيشان بقافلة فيها مئة ناقة لأجل التجارة في الشام، تم الاستعداد للرحلة بكامل معداتها من مؤن وسلاح، فالطريق مُخيف بقطاع الطرق والحنشل، اتجهت المسيرة نحو الشمال، وكان ذلك 1345ه -كما يذكر شخصيتنا-، ثم وصلت القافلة إلى حائل، وكانت النية إلى مصر، واستقر هناك ستة أشهر متاجراً بالإبل والسمن، وكان ينتقل ما بين القنطرة والمطرية والزقازيق، وكانت هي الأسواق لتجار الإبل، كانت هذه الرحلة راسخة في أعماق شخصيتنا؛ لأنها أول رحلة له يجوب فيها الأرض خارج القطر النجدي، فرحلة الستة أشهر كفيلة بأن تعلمه الكثير من الخبرات والدروس، والعطيشان وهبه الله الذكاء والفطنة وسرعة الفهم، والتجارة في حد ذاتها مدرسة لكيفية التعامل مع طبقات المجتمع، وها هو يخالط مجتمعاً غير مجتمعه، في القاهرة والمدن الأخرى، والتي تضم مظاهر الحضارة المدنية والتقدم، كانت مصر من أغنى الدول العربية اقتصادياً وزراعياً. جهاز حسّاس ورحل تركي العطيشان -رحمه الله- إلى جدة حيث علم بأن أخاه محمد في الحجاز، صحب الوجيه السفير فوزان السابق في السفينة الذاهبة إلى جدة، وهنا بدأت خدماته للحكومة، وقد عُيّن في خفر السواحل، وهذا الجهاز الأمني حساس؛ لأن القصد من تأسيسه مراقبة الحدود البحرية للدولة من أي متسلل أو مهرب، وكان لا بد من رجال ذوي يقظة ونباهة وحزم وقوة بأس وشجاعة، فكانت هذه الصفات متوفرة في شخصيتنا، فرجال العقيلات دائماً مستعدون لكل طارئ أو حدث مفاجئ، وتجربة العطيشان في عالم العقيلات كانت له رصيداً ضخماً في هذا الجانب الأمني، وقد أثبت جدارته وكفاءته في خفر السواحل، وهو في ذلك الحال شاب قوي البنية لديه حماس الشبيبة، لكنه حماس متعقل ورزين، وكما قلت عقله أكبر من عمره، وهذه نعمة كبرى يهبها الله لمن يشاء، وأذكر كلمة لوالد القاضي إياس، وهو معاوية بن قرة المزني -رحمهما الله- حيث قال في إياس: إن ابني هذا أعطاه عقل والد وليس ولد، وهكذا الله يهب الحكمة لمن يشاء، فكما أن الله قسّم الأرزاق قسّم الأخلاق والعقول، يقول لسان الدين الخطيب: سبحان من قسم الحظوظ فلا عتاب ولا ملامة ذاك أعطاه وذاك أعشى وذاك زرقاء اليمامة عمل وسهر كانت مهمة خفر السواحل صعبة، إضافةً إلى حفظ الحدود البحرية الجمارك والجوازات ومراقبة حركة السفن والتحقق من استيفاء البضائع على حسب الأنظمة المتبعة واستيفاء الرسوم والتثبت من هويات القادمين إلى ميناء جدة، والذي كان من المواني المهمة اقتصادياً، حيث إن الحجاج القادمين من العالم العربي والإسلامي يتوافدون عليه، وتكون المهمات في أشهر الحج لخفر السواحل أكثر عملاً وسهراً ومتابعة، فهذا الموسم لا بد من مضاعفة العمل، فقوافل البواخر من الشمال والجنوب والغرب من البحر الأحمر، ولا بد من متابعة سير الحجاج على الميناء، وهذا راجع إلى إدارة الجوازات وهي من أعمال خفر السواحل. أول شرطة ويُعد تركي العطيشان -رحمه الله- وأخوه محمد العطيشان من الرواد الأوائل، حيث إنهما أسّسا أول شرطة في مدينة الرياض 1351ه ومعهما ناصر الرواف وهو نائب الشرطة بأمر من الملك المؤسس، وكان تأسيس الشرطة في الرياض حدثاً كبيراً مع أن الأمن مستتب في المدينة الصغيرة إلاّ أن وجود جهاز أمني كان لا بد، وقد تحدث شخصيتنا عن هذا التأسيس للشرطة قائلاً: إن عدد المنتسبين للشرطة قد تزايد حتى أصبح 200 جندي، وذكر منهم ضباط أتوا من الحجاز أمثال أحمد يغمور ومحمد قطان، راوياً المهمة التي كلف بها من قبل الملك المؤسس حينما توافد القبائل إلى الرياض وسكن البطحاء وأم سليم والمرقب. يقول الباحث بندر العطيشان ناقلاً كلام شخصيتنا عن هذه الحادثة وقد سردها في لقاء باستديو الدمام وملخصها أن الملك المؤسس أمر على تركي العطيشان ونخبة من رجال أن يعطوا مساحة أرض عشرين ذراع طول وعرض مثله، لكل رجل من البادية ويبقى ملك له ويعطى ورقة بذلك. عدة قضايا واستمر تركي العطيشان -رحمه الله- في شرطة الرياض وكُلّف بعدة قضايا ونقل إلى الحراسة الأمنية الملكية، وكانت أول قوة حرس ملكية ترافق الملك عند خروجه من القصر، وعند رجوعه، سواء داخل المدينة، أو في حالات السفر، وكلّف العطيشان بعدة مهام وهي لجان فحص ومراقبة وتفتيش في المنطقة الشرقية، وأمر بها الملك المؤسس، وكانت هذه اللجان في حفر الباطن والسفانية والجبيل، وكانت زيارة العطيشان لرأس تنورة هي أول زيارة للمنطقة، وقد قام بهذه المهمة خير قيام، هو ومن معه من زملائه، وذكر بعضاً من تفاصيل اللجان في اللقاء التلفزيوني باستديو الدمام، وذكر مطالب العمال السعوديين بشركة أرامكو، والتي على إثرها كتب وزير المالية بأمر من المؤسس بتحقيق المساواة بين السعوديين وغيرهم، وامتثلت الشركة بالخطاب الموجه إليهم بتوجيه من الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، وهذه مهمة نجح فيها شخصيتنا وزملاؤه معه، وغيرها من المهام التي مثلت إحقاق الحق وكشف الحقائق وإظهار الصورة على واقعها. أمير رأس تنورة وتولى تركي العطيشان -رحمه الله- منصب أمير رأس تنورة -كأول أمير لها- 1363ه، وكان الملك المؤسس -رحمه الله- زارها وأُستقبل استقبالاً حافلاً، وكان في مقدمة المستقبلين الأمير سعود بن جلوي -أمير منطقة الأحساء- والعطيشان بمطار الظهران، وأقام شخصيتنا مأدبة غداء للملك المؤسس ومرافقيه وكانت زيارة تاريخية. كانت علاقة العطيشان بشركة أرامكو علاقة جيدة وممتازة، وكذلك بالوفود التي تأتي إلى زيارة المنطقة، وكان يكتب بكل المستجدات للملك المؤسس، وكان العطيشان قد استقبل عدداً من أصحاب السمو الملكي وعلى رأسهم الأمير سعود بن عبدالعزيز -ولي العهد آنذاك- ومعه وزير الدفاع الأمير منصور بن عبدالعزيز، وصاحب السمو الملكي نائب الملك في الحجاز الأمير فيصل بن عبدالعزيز للإشراف على سير العمل بالشركة. ومن خلال سماعي للقاء التلفزيوني وقراءتي لكتاب سيرته، نجد أن تركي العطيشان كان بالغ الحكمة في معالجة الأمور الشائكة، وكان الرفق هو ديدنه وسيرته، في كل ما يواجهه من مشكلات، وكانت النتيجة هي حلها بشكل نهائي وقوي، وليس أنصاف حلول، أو تهدئة هذه المشكلة أو تلك، بقي العطيشان في رأس تنورة لسبع سنوات متتالية، لم يعرف عنه إلاّ العمل في مصلحة الشأن العام، ووضع بصمات واضحة في هذه المدينة، وأثنى مسؤولو شركة أرامكو الأجانب على دبلوماسيته في التعامل، مع أنه لم يدرس فنون الإدارة، لكن موهبته الفذة في التعامل مع أي شخصية كانت علامة بارزة في شخصيته. التجديد له وصدر أمر ملكي بتعيين تركي العطيشان -رحمه الله- رئيساً للعمل والعمال، وكان يتمتع بعلاقة جيدة مع العموم، ثم بعد ذلك عاد إلى رأس تنورة للمرة الثانية أميراً عليها، وعندما بلغ سن التقاعد تم التجديد له أكثر من مرة، نظراً لكفاءته، وقامته الإدارية، وهكذا قدم العطيشان كل ما يمكنه من عطاء وطني منذ عام 1346ه حتى تقاعده. توفي ليلة الخميس الثلاثون من صفر 1405ه، -رحمه الله وغفر له-، ودفن بمقبرة الدمام، وصلي عليه صلاة الجنازة، وكان المصلون عددا كبيرا وامتلأت المقبرة بالمشيعين. أشكر عيد بن محمد الثقفي على إهدائي نسخة من كتاب تركي العطيشان، والشكر موصول للباحث بندر بن خالد العطيشان حيث تواصلت معه وأشكره كذلك على إرساله الصور وبعض الوثائق. تركي بن عبدالله العطيشان -رحمه الله- الأمير عبدالمحسن بن جلوي -رحمه الله- وعلى يساره العطيشان بعد تقدمه بالعمر جواز سفر تركي العطيشان وهو في شبابه خطاب من الملك عبدالعزيز -رحمه الله- موجّه إلى تركي العطيشان خطاب من الملك سعود -رحمه الله- إلى العطيشان إعداد- صلاح الزامل