صحيحٌ أنّه من الصعوبة بمكان رسم وصف دقيق للتحالفات والخرائط السياسيّة العالميّة في العقد المقبل؛ بسبب الطبيعة الديناميكيّة للعلاقات الدوليّة والمصالح والمتغيرات غير الواضحة في طبيعة الموارد والتقنية، ولكن المتأمّل يمكنه رصد العديد من المقدّمات التي تكاد تعطي صورة تمهيديّة لهذا العالم العجيب في قادم الأيام. الصورة الكبرى تشمل لوحتين متضادتين لنتائج العلاقات بين الولايات المتحدّة (الغرب) والصين مع اشتداد التنافس الاستراتيجي بينهما إذ سيؤدي تصاعد المنافسة إلى حالة من التأثير القوي على التجارة الدوليّة والتقنية والمجالات العسكريّة، وفي المجال العسكري تحديدًا، فقد تؤدي القضايا المتعلّقة بتايوان وبحر الصين الجنوبي إلى تفاقم التوترات بين طرفين أحدهما متعب يائس والثاني صاعد متردّد يحتاج فقط إلى مغامرة واحدة ليمتلك الشجاعة، وبحسب معادلات الصراع والمصالح فإن الطرفين إمّا أمام صراع مفتوح أو هدنة مصالح لا قويّ فيها إذ يكتفي الطرفان فيها بإنشاء محاور لإدارة تنافسهما، وتجنب الصراع المباشر مع مواصلة التنافس اقتصاديًا وتقنيًّا، وفي حال ظهور نخب أميركيّة تؤمن بسنن التاريخ فقد تجد نفسها مكرهة للتعاون الاضطراري مع الصين في مواجهة التحدّيات الدوليّة مثل السلام العالمي، وتغير المناخ والأوبئة ومنع الانتشار النووي. وبخصوص روسيا، فإن نطاق التوترات مع الغرب في جزئه الأكبر مرهون بشكل كبير بحياة وطموحات الرئيس بوتين (72 عاما)، أمّا على المستوى التكتيكي الحالي، فستجد موسكو نفسها أكثر حاجة إلى التحوّل نحو آسيا، وربما أفريقيا والشرق الأوسط لموازنة النفوذ الغربي. في القارة الأوروبيّة وما حولها، وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي يسعى إلى تحقيق تكامل سياسي واقتصادي أقوى لتعزيز نفوذه العالمي إلّا أن الضغط الاقتصادي وتحدّيات تنامي الهجرة ومعها القوميّة قد تؤلف تحدّيًا كبيرة مع تصاعد أصوات صاخبة في بعض الدول الأعضاء للنظر في وجودها وأدوارها داخل الاتّحاد الأوروبي، ولهذا فقد يسعى الاتحاد الأوروبي إلى الاكتفاء بتحقيق قدر أكبر من المرونة في الدفاع والسياسة الخارجيّة، ما قد يؤدي إلى دعم فكرة خلق نظام عالمي أكثر تعددًا للأقطاب. في الشرق الأوسط المثقل بمشكلاته القديمة والجديدة ستحرص تل أبيب على تعزيز الجهود للمزيد من تطبيع العلاقات بمحيطها العربي والإسلامي، وهذا هو الأمل الوحيد للبقاء، فهي تعرف ما يجري في العالم، ولن تستقر إلّا بتبريد الجبهات المجاورة مهما كان الثمن، أمّا إيران وتركيا -مع تغير الأنظمة والمفاهيم- فلربما تنكفئان على الداخل بعد مغامرات مكلفة في تغذية الصراعات والتنافس الإقليمي الباهظ الثمن. وفي العقد القادم ربما يبرز دور الهند مع اقتصادها المتنامي وموقعها الاستراتيجي، وقد تصبح هذه الدولة لاعبًا عالميًا أكثر نفوذًا، وفي أفريقيا بمواردها الهائلة ومع استقرار أنظمة الحكم بصفته شرط أساس، فقد تؤدي التنمية الاقتصاديّة في بعض الدول الأفريقيّة إلى وضع أسواق جديدة على خريطة التجارة العالميّة، أما أميركا اللاتينيّة، فقد تؤدي التغيّرات السياسيّة والاقتصاديّة إلى تغيير مراكز النفوذ الإقليمي، ولا سيما في دول مثل البرازيل والمكسيك، وبطبيعة الحال سيكون للتقدم التقني والأمن السيبراني وسباق الذكاء الاصطناعي التأثير الأكبر على مفاعيل وتوازنات القُوَى العالميّة. * قال ومضى: المستقبل يصنعه من يستعدّون له.. لا من ينتظرون مفاجآته.