منذ تشكل أولى المجتمعات والتجمعات البشرية، لطالما كانت اللغة هي المأوى وتمتد حتى الهوية والانتماء، واللغة هي رمز الهوية، وهي البوابة لمعرفة هوية الشعوب، وتعرّف ثقافاتهم وعاداتهم، فعلاقة اللغة بالهوية هي علاقة أكبر من مجرد علاقة الجزء بالكل، وعلى الرغم من أن اللغة غير كافية وحدها؛ لتعرّف طبيعة الشعوب واختلافاتهم، لكنها قارب قادر على إيصال الراغبين في المعرفة إلى ضفة نهر الحقيقة والجوهر، ولقد برع الإنسان في جعل اللغة فنًا محتفظة في الوقت نفسه بوظيفتها التواصلية، وأيضاً فنًا يستطيع من خلاله التعبير عن جميع مشاعره وأحاسيسه وأفراحه وأتراحه، وبإمكانه من خلال اللغة «أن يجعل قاعة تعج بمئات الأشخاص أن يبتهجوا طربًا لقصيدة ما، أو ينفجروا ضحكًا من خلال بضع كلمات في نكتةٍ ما». واللغة في جوهرها تتكون من ثلاثة عناصر وهي: العنصر الاتصالي والعنصر اللغوي والعنصر الثقافي. وهذه العناصر اكتملت بالنسبة لدي عندما دعيت لزيارة مجمع الملك سلمان للغة العربية فقد شدني ما رأيت من مشاريع وإنجازات، فكانت اللغة العربية هناك فتيّة تتضاحك فاتحة ذراعيها للكون، حيث يساهم مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية في تعزيز دور اللغة العربية إقليميًّا وعالميًّا، وإبراز قيمتها المعبّرة عن العمق اللغوي للثقافة العربية والإسلامية؛ ليكون مرجعية علمية على المستوى الوطني في اللغة العربية وعلومها، وليسهم إسهامًا مباشرًا في تحقيق أهداف برنامج تنمية القدرات البشرية، أحد أهم برامج تحقيق رؤية المملكة 2030. حيث يعمل المجمع على سد الفجوات المعرفية من خلال رسالة المجمع الهادفة إلى العناية باللغة العربية والاعتزاز بها، وتمكينها من الإسهام الحضاري، والعلمي، والثقافي؛ اطلعت على الكثير من الجهود والأفكار الرائعة والمميزة التي تخدم اللغة العربية لتصل بها للعالمية حيث أطلق المجمع مبادرات عديدة منها: جائزة مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، معجم اللغة العربية المعاصرة (معجم الرياض)، الذي يتميز باستناده إلى معايير الصناعة المعجمية الحديثة التي تُسهِّل الوصول إلى المعنى، ومبادرة المستشار اللغوي، أيضاً مبادرة خوالد وهي منصة صوتية تستهدف تسجيل ألف قصيدة مختارة من عصر ما قبل الإسلام؛ انسجامًا مع عام الشعر العربي الذي حددته وزارة الثقافة في العام 2023م. وأيضاً كان نصيب ذوي الاحتياجات الخاصة لفئتي الصم وضعاف السمع حيزاً من البرامج بالتعاون مع الجهات ذات العلاقة، كذلك برنامج الانغماس اللغوي والذي شارك فيهم أكثر من 34 دولة كان برنامجاً متميزاً وفريداً من نوعه. أما القناة التعليمية التي أطلقها المجمع تحت اسم «العربية للعالم» حيث تقدم تعليماً سهلاً وباستراتجيات مختلفة. كذلك مبادرة (معمل الابتكار في اللغة العربية)، ومبادرة علماء العربية، أيضاً مبادرة مؤشر اللغة العربية وهو إنجاز مؤشر دولي للغة العربية. فالمجمع يعج بالكثير من الأنشطة المتنوعة المحلية والدولية من جوائز ومؤتمرات وبحوث ودراسات والكثير من الأنشطة بالشراكة مع الجهات ذات العلاقة، ولكن أكثر ما لفت انتباهي هو توظيف الذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية حيث أطلق عبر موقعه الرسمي العديد من البرامج منها: برمجان العربية (هاكثون)، ومسار (بناء المعاجم الرقمية)، ومشروع (نمذجة)؛ لتأهيل الكفاءات في هذا المجال، كما أنشأ مركز (ذكاء العربية)، إضافة إلى العمل على منصة المصطلحات العربية الموحدة، وبناء مجموعة من المنصات الخادمة للعربية، والأدوات المستفيدة من تقنيات الذكاء الاصطناعي. هذا العمل الشاسع والممتد لم يتوقف عن الحاضر بل امتد للمستقبل حيث حرص على تمكين اللغة بين الأطفال وإتقانها من خلال أنشطة عديدة كتحدي الإلقاء للأطفال، وإقامة معرض اللغة للأطفال بمقر المجمع والذي أصبح مزاراً للعائلة والأطفال، يستفيدون من كل الإمكانات فيه عن طريق اللعب والتشويق بطريقة علمية مدروسة وممنهجة. ففي عصر اقتصاد المعرفة والثورة التكنولوجية والعولمة التي بدأت تلغي الهوية كان لنا موعد مع العالم لإبراز هويتنا وجهودنا العلمية والثقافية من خلال اللغة العربية وتعميقها من أجل المشاركة في عملية البناء الاجتماعي والثقافي، فاللغة مثل خارطة أو معادلة داخلية تتحكم بكيفية إدراك الإنسان لكل ما في الكون وكيفية التصرف نحو ما يدرك. لذلك تحدي إبراز وتعلّم وتعليم اللغة يتطلب استراتيجيات لتنشئتها، وهذا ما وجدته مطبقاً في مجمع الملك سلمان للغة العربية، فهو يشارك في تطوير المجتمع وتعزيز الحياة الثقافية والمسؤولية الاجتماعية تجاه اللغة العربية. د. زينب الخضيري