الحب هو سحر خفي في ذاته لا يستطيع أحد مقاومته! فهو من يعمر قلوب البشر بعمارة بهيجة تقاوم كل مآسي الحياة، وهو نظرة بين عاشقين خلسة عن أعين الرقباء، يرتحل بالوجدان بعيداً عن واقع الحياة المكبل لكل شيء، فتركض الأرواح في فضاءات رحبة في سماوات التلاقي، لقد أعلن عن موت الحب!.. أتذكر حينما دخل علينا الأستاذ الدكتور نبيل حجازي -رحمه الله-، ونحن لا نزال في الصف الأول من الدراسة في الأكاديمية وسأل سؤاله المحير، وعلى كل منا أن يجيب عما هو الحب؟ حقيقة الأمر تحيرنا جميعاً ولم يدلِ أي منا بإجابة شافية، فلا يزال عود المعرفة لدينا غضاً وليناً! الحب عالم روحي يتقلب بين الذات كذات واعية قد يعثرها العقل، وبين روح بعالمها الوجدي شديد الالتصاق بعالم الوجود والموجودات! فعندما خلق الله الإنسان خلق معه الحب، وخلق حواء لآدم عليه السلام ليتسنى لهما ذلك الأنس المفقود. فكانت الجنة برحابتها وما فيها من لا عين رأت ولا أذن سمعت تحتاج إلى هدأة النفس وإلى دفء المشاعر وإلى الأنس بالآخر، فكانت حواء. وحينما أهبط آدم إلى الأرض هبط الحب معه لوظيفة ذلك الأنس والحب، وأول أدواته العبادة، فكان حب الله هو الحب الأول في هذه الأرض من أجل عمارة هذه الأرض والعبادة هي الجزء الأكبر من هذه العمارة إذ يغلفها جميعها ذلك الجوهر الفطري الذي يشكل وعي الإنسان ووجدانه وهو العنصر المهم للسعادة والإنجاز وعمارة الأرض، ولذلك قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) صدق الله العظيم، هذا أولا. ثانياً؛ هو الانتقال من مفهوم الحب الروحي الخالص كجوهر للحس البشري إلى مفهومه الجمالي، فالحب عند الفلاسفة "يُستخدَم مصطلح إيروس عادةً للإشارة إلى الحُبّ الذي يشكّل رغبةً عارمةً بشيء ما، أو ما يعبّر عن الرغبة العاطفية، أمّا عند أفلاطون وسقراط فيُشار بكلمة إيروس إلى الرغبة التي تسعى نحو الجمال الحقيقي؛ حيث يرى أفلاطون وسقراط أنّ الحُبّ الذي يتولد ويسعى إلى الجمال هو حُبّ باقٍ ما بقي الإنسان يرى ليديل أنّ إيروس نوع من الرغبة العاطفية، كما وصف الحبّ الإيروسكي بمعنى أن تحبّ شيئاً؛ أي أن تستجيب لرغباته، أمّا مصطلح فيليا عند اليونان فهو ما يشتمل على الولاء والتقدير للآخرين". ومن المعهود والمتعارف عليه أن الحب ينبع من الوجدان مكمن العاطفة والمشاعر، وهو ما جعل الفلاسفة يضعونه ضد العقل، لأنه يمكن التحكم في التفكير عن طريق حسابات عقلية واعية، بينما لا يستطيع الإنسان التحكم في مشاعره وإن سطا عليها بات شقياً تعساً. إذاً، فالحب في هذا المضمار هو جوهر السعادة، والتقلب العاطفي تجعله يتقلب بين اللذة والكدر، وعلماء النفس توصلوا أن الحب يدر من مادة الدوبامين التي يفرزها الدماغ فيشعر الإنسان بالارتياح وبالهدأة والطمأنينة لأنه يشعر بوجوده هو، يشعر بالأنس الذي يمكنه من الإمساك بتلابيب الحياة أياً كانت صفتها وأياً كان نعتها. تذكرت حينها ذلك المونولوج لبطل روايتي (غصن النيمي) حينما سادت الحرب ففقد حبيبته مها فلم يعد بقادر على فهم الحياة أو مسايرتها؛ فالحرب هي آكلة الحب فيقول: كنت على قدر أظنه ليس بالقليل في الأدب الجم مع كل من أعرفه ومن لا أعرفه! لماذا أسمع العالم وهو لا يسمعني؟ أشعر بأن العالم كله يدور في دائرة مفرغة، لا تلبث أن تبدأ حيث تنتهي من حيث بدأت، إنها الحياة أضحت مقيتة حلزونية الأفق، تأخذ إلى القاع كل ما هو غال وثمين، ويطفو على السطح دائماً غثاء الناس ورعاعهم! ليتني أعرف ما وراء الأفق، الأفق بعيد، بعيد! ولا أستطيع رؤية ما لا يستطيعه بصري. أفّ، لهذا البصر ولهذه الرؤية المحدودة. أقوى بصر لا يستطيع إدراك مداه المحدود، والأفق مليء بالعوالم الخفية الباطنة والظاهرة، أفق زاخر بكل المتناقضات! وأنا قابع هنا، لا أستطيع إسماع صوتي لأي من خلق الله، كل صوت أطلقه يتلوه صوت آخر، ويرتد لي صداه كأني نافخ في بوق أجوف، فأنا فقط من أسمع صوتي. سئمت تلك الحياة، وضاق الأفق برحبه الواسع الفضفاض، الحرب تأكل الطيور وحفيف الشجر، صهيل الخيل في زرائبها وحمحمة أفراس النهر، تأكل حنين الإبل، وثغاء الأغنام، أشعر بهدير الدمع في أعين الصبايا البائسات، أين هي مها؟ هي من تمكنني من فهم هذا العالم، الحب وحده هو الوحيد الذي يجعلني قادراً على كل هذه التحديات، فلعنة الله على الحرب. حينما سمعت منه هذا المنولوج، تذكرت الحب بمفهومه الفلسفي العميق، هل الحب بقدرته تلك يستطيع، أن يذيب كل هذه الأشياء والأمكنة المسحورة؟ هل صدق أحمد بأن لقاء الأحبة يستطيع فك شفرات كل الألغاز؟ هل الحب هو (أنتي بيوتك) الحرب؟ وأين يباع إذاً؟ الحب هو سحر خفي في ذاته لا يستطيع أحد مقاومته! فهو من يعمر قلوب البشر بعمارة بهيجة تقاوم كل مآسي الحياة، وهو نظرة بين عاشقين خلسة عن أعين الرقباء، يرتحل بالوجدان بعيداً عن واقع الحياة المكبل لكل شيء، فتركض الأرواح في فضاءات رحبة في سماوات التلاقي، لقد أعلن عن موت الحب! مات الطيب المعطر للوجود، ماء الحياة الذي كنا نقرأ ونسمع عنه في أساطير القدماء، الذي يتبدى في العديد من الحكايات، وكنا ننصت للرواة في شغف ومتعة عن تفسير كنهه وعن سره الكامن في إعادة الحياة. لعله هو ذاك الماء الذي قيل إنه يعيد حياة أرواح البشر إلى أجسادهم هكذا فسروه على حد فهم ذلك الزمان! لعله الجوهر السحري الذي تحكي لنا جدتي في حكاياتها المسائية عنه ونحن على وسائدنا ذات مساء، وكيف أن يذهب البطل لإحضاره من عمق بئر أو ساحة بستان أو بحيرة أو نهر بعيد جداً، لأنه ينبع بالشباب وبالحياة من جديد. أسلافنا كانوا يخبرونا عن الحب بأسلوبهم وبرموزهم ويحثوننا على البحث عنه لكي تعمر قلوبنا فتعمر الأرض بدورها. فلا نفتأ أن نتذكر أسطورة عشتروت حين نزلت إلى العالم السفلي، لإحضار ماء الحياة لابنها تموز لتعيد إليه الحياة عن طريق هذا الماء، وهي بدورها تخبرنا عن قيمة الحب الذي تحمله تلك الأم –عشتروت- في صورة ماء الحياة ذاك. هل نصل إلى تلك الأكلة التي نخرت في منسأة الحب في يومنا هذا، وإن كان ذلك كذلك لما سادت الحروب وسالت الدماء، صُنِعت الزلازل والعواصف والأوبئة لفتك الإنسان بأخيه الإنسان في عالم لا يعرف إلا لغة الحرب.