الترجمة ليست لساناً منطوقاً يُنقل عنه، ولا دلالة قريبة يُعبّر عنها؛ فحسب، بل هي طبقات من دلالات محكومة ب «نظرة إلى العالم»؛ تعيد تشكيل المعاني، وتنظّم المفاهيم المنطوقة المعبّرة عنها -كما تقدّم في المقال السابق-، فليست الترجمة مجرّد أفق، بل عمق أهم. واضطراب الأمواج على صفحة البحر حال يوميّ لا يُستنكر، أما المُستنكر فالحالات التسوناميّة التي تضرب عمق المحيطات، فتحدث التحولات، وكثير من الأضرار، في حال لم يُنتبه لها. وبالنسبة لترجمة «العلمانية» فكان اضطرابها الأوّل هو بُعد «الدلالة المسيحية للعلمانية» في شق زمنيّ، وشقّ فكري هو «النظرة إلى العالم»، ومن مستنداتها مخالفة الرؤية الإسلامية الكونية للدنيا والآخرة. وفي هذا المقال إبراز للاضطراب الثاني العميق، وهو «الدلالة الغربية للعلمانية». الدلالة الغربيّة للعلمانيّة: اكتفت الدلالة الغربيّة للعلمانية المعاصرة بالجانب الماديّ للآيات (أي ظواهرها)؛ وهو الموقف الثاني من المواقف الخاطئة -كما ذكر العطّاس-. وهي رؤية نتجت عن تبلور تاريخي غربيّ منذ اليونان واليهود حتى القرن 16م. مما جعل نطاق الرؤية الكونية للعلمانية في «الزمن الآنيّ» و»المكان الحاليّ»، أي: دنيوية فقط دون تعدٍ لأخرويّة، في سياق أوروبيّ، دلالة على «الآن وهنا»؛ نتيجة صراعات تاريخية أوربية عديدة، ولمحاولة تخطّي تراكمات إفساد المسيحية الغربيّة، كذا الإقطاعيات، وغيرها من مشكلات التاريخ الأوروبيّ. وهذا جعل «الإبستيمولوجيا» العلمانيّة محكومة بخصائص هذه البلورة التاريخية بحسب نظرتهم للعالم، من: تغيّر، تعدد، تحوّل، تعارض... فالعلمانية ليست مجرد لفظ، أو استعمال سياسي، بل هي «برنامج إيديولوجي» للزمن المعاصر. وقد ولّد هذا الاضطراب، في علاقة جدليّة، خصائص زوّدت «النظرة الغربية إلى العالم» بخصائص تشكل الرؤية العلمانية؛ في جدلية أعادت تشكيل خصائص النظرة إلى العالم بعد علمنتها. وخصائص «النظرة إلى العالم» الثانية في أصل اللغات تنتقل فكرياً حيثما ترجمت، ما لم تتوخَّ الترجمة تلك الدلالات التي تقيّد السماح لنفاذ هذه الرؤية في الثقافات المنقول إليها. ولعل أقل مشكلاتها هي: التسبب في «أزمة هويّة» معاصرة متضعضعة بين أكثر من إطار معرفي، في شبكة من الرؤى الكونيّة المتضاربة أحياناً. وأبرز هذه الأبعاد العلمانية التي ساقها العطاس هي: «التحرر من سحر الطبيعة» و»لامركزية السياسة» و»تطهير القيم». ولعل الأبعاد التي ساقها كانت من فتح باب التغيير الاجتماعي وفق التاريخ الأوروبي المعاصر ب «الإجرائية العقلانية»؛ عند نزع السحر عن العالم، والإرادة المطلقة الفعالة عند تقليص تحكمية السياسة اجتماعيّاً، واستباحة ما لم يُلزم به العقل الإجرائي، ورفع قيود التشريعات، بالتطهر من القيم ذاتياً واجتماعياً. أي: المارد الجبّار في نزعه الحدود والقيود. وهذا الخلل في أصل الدلالة العلمانية الغربيّة من شعار نزع للحدود والقيود خضوعاً لإجرائية عقلانية، وإرادة جبّارة، واستباحة كل ما يمكن استباحته؛ هو دلالة أخرى في مجال الترجمة العربية. فالترجمة العربية باتت بين ثلاث طبقات للمعنى: «المعنى الإسلامي وفق رؤية الكون الإسلامية»، و»المعنى المسيحي وفق رؤيته الكونيّة»، و»المعنى العلماني وفق رؤيته الكونيّة». فصارت المباعدة وفق بعدين: البعد الزمني: بين تواريخ ممتدة تقارب 1400 سنة، والبعد الفكري: تعدد الرؤى الكونيّة. وهذا يوجب تخليص الترجمة العربيّة من هذه الحمولة، وإعادة تعريف «العلمانية» الغربية وفق الرؤية الكونية المعاصرة، لفهم هذا الواقع المعاصر. فأعاد العطاس تعريف العلمانية ب «برنامج فلسفي أو أيديولوجيا» لها أهداف محددة، تتحدد أهدافها بحسب المواجه لها، فإن كان دينياً واجهته بأهدافها الدينية لنسفه، وإن كان غير ذلك فعّلت أدوات النسف التي لا تسمح بمخالفة إطارها العلمانيّ المارد المُستبيح لكل شيء. ومن ذلك إفساد اللغة، ومفاهيم مهمة في الرؤية الإسلامية، ك: العلم، الحرية، السعادة، الفضائل، الدين.