ليست الترجمة نقلاً لما ظهر، بل هي استرشاد بالمضمر الذي شكّل ما ظهر من أفكار عبر لسان. و»النظرة إلى العالم» هي المؤطر للفكر في كيفية انتظامه وفق تعبير اللغة؛ إذ اللغة عاكسة للرؤية الوجوديّة، وناقلة للقيم والمفاهيم من مجال إلى مجال، وقد تنقل ما يعارض رؤية المجال المنقول إليه، أو توافقه. ولأن اللغة اللسان المبيّن عن النظام الفكري لأي أمة، وهي المنفذ الأول، فيلزمها عند الإبانة التمييز بين المختلفات، والتسوية بين المتماثلات، والتقريب بين المتشابهات، حتى لا تعود على الأصل (الرؤية إلى الكون) بالبطلان! وباختلال الإبانة في أصلها المعنويّ قد يتسلل ما يُحدث الاضطراب، وتزداد الضبابية، ويضعف الفكر، ولا فكر مع الإبهام. وقد وقع إبهام عندما فُصل المنطوق عن الرؤية الكونية في مثال ترجمة مفهوم «العلمانية»، بعدّه نموذجاً على هذا الإشكال. إشكالية ترجمة «العلمانية»: يبيّن «العطّاس» أن اللسان في منطوقه غير كافٍ للترجمة، بل لا بدّ من التأطير بالنظرة إلى العالم، فانتقد عدة مفاهيم، منها «العلمانية»؛ إذ وقعت القطيعة بين الدلالة المعنوية الإسلامية واللفظ العربي، لأن الترجمة العربية لهذا المفهوم كانت من قِبل مسيحيين عرب، لم يفتقروا إلى «اللسان» وإنما إلى الرؤية الكونيّة، التي تعيد نظم اللسان وفق بينة فكريّة. فنظرَ المسيحي إلى دلالة «العلمانية» من خلال رؤيته الوجوديّة المسيحيّة أولاً، التي استلزمت قطْع الصلة المعنوية، ثم جاء مباشرة للربط بالدلالة العربية التي تتعارض مع هذه الرؤية في مستواها المعنوي، فسُطّحت الدلالة وفق المستوى اللغوي المعجمي، وبقي التعارض في أصل الرؤيتين «الإسلامية» و»المسيحية» (وهو الأهم)؛ لتظهر مشكلات تُبرز ملامح الرؤية الغالبة، منها: قيام الرؤية المسيحية على الفصل بين «الدنيا» و»الآخرة»، وبين خاصّة المتدينين وعامتهم، بطريقة تخالف صلتها في الرؤية الكونيّة الإسلاميّة، فأقام المفهوم على التباسه في التداول العربيّ. وقد تُعرف هذه الرؤية الكونية المسيحية العربيّة بإشارات، منها: تاريخ «دلالة مفهوم العلمانية»؛ إذ بحسب الكنيسة الغربيّة؛ العلماني Saeculum هو «الأميّ»، أو المهتم بالعالم الدنيوي غير المقدّس (المدنّس). فنُقِلَ المعنى المسيحيّ إلى من ليس من أرباب الفنّ والحِرف، ممن يهتم بالأمور الدنيويّة، وشؤون العالم (العالميّات). فحمَل اللفظ دلالة «الانقطاع»؛ انقطاع الصلة بين الدنيا والآخرة، تحت ثنائية «مقدّس» و»مدنّس»، خلاف «الرؤية الإسلاميّة للكون». (ويضاف إلى الإشكال المعنوي الإشكال اللفظي كما بحثه أ.د. عبد الرحمن السليمان: الأصل السرياني لا العربيّ عند المُترجم المسيحي العربيّ). وقد تقدم في المقال الأول، أن لا تقاطع بين «الدنيا» و»الآخرة» في الإسلام، بل تلازم، والتفريق كان بالزمن والبعد، وفق تراتبية إشارة «الدنيا» لما دنا وقرب، في حين الآخرة لما تأخر. مع امتياز الآخرة بأنها أوسع من الدنيا في الوجود، والمستقبل أعظم من الحاضر، والحاضر تحضير للآخرة، وقصدُ الآخرة ينتشلُ الإنسان من حدود الحاضر المحدود، للتحضير لآخر متسع؛ آخر اُختزلت دلالات هادية إليه في القريب المداني، فلا تُحصّل إلا بتمسّك بالقريب «الدنيا»، تمسكاً يقرّب من «الآخرة». فعلى الضد من الفصل، يأتي الإسلام بالوصل، فالدنيا شرط الوصول إلى الآخِرة. فالتعارض في أصل الترجمة المعنويّ لا يقطع الصلة بالغيب فقط، بل يلغي المميزات التالية للدنيا. من مميزات الدنيا في الرؤية الإسلامية الكونية وصلها بالآخرة عبر: 1) الآيات الكونيّة: الدالة على الإله، فالشاهد دال على الغائب، وهذه الآيات منّة إلهيّة؛ ليقرّب مخلوقاته ويدنيها إليه في الدنيا، ويعلّمهم بها رحمة بهم، وعناية. وقد تشعبت مواقف من الناس من الآيات، إلى: الموقف الصائب: الموافق لأصل دلالة الآيات، تعرّفاً على صفات وأفعال الحق سبحانه. والموقف الخاطئ: وهو على صنفين: صنف «الإيمان بالآية دون خالقها» فعلموا عظم الآيات، لكنهم فقدوا خاصيّة دلالتها على الحق سبحانه، فعبدوها مباشرة! وصنف «ماديّة الآية» وذلك بتحويلها لأمر ماديّ ظاهر محدود قاصر؛ ممن تجَاهلها، أو أنكرها، ولم يعترف ببعدها الدلاليّ. 2) الفطرة: هي التي تربط بين أجزاء الآيات كلها، وتدل على أول الخَلق في أهليته ومواثيقه مع الله سبحانه، كذا تدلّ على «المنتهى»؛ الذي يطوّر ويوسَّع في الدنيا على هذه الأرض. (مع تحفظي على دلالة الفطرة بحسب ما شاع في الفلسفة الإسلاميّة). وللحديث بقيّة...