الكثير من المستشرقين الذين زاروا جزيرة العرب وكتبوا عنها بدوافع سياسية وخدمة لبلادهم الاستعمارية، لكن كتاباتهم لا تخلو من المباحث الجغرافية والتاريخية ووصف لطبيعة الظروف التي يعيشها الناس وذكر العادات والتقاليد والأعراف في المنطقة، فهؤلاء الرحالة في الغالب لا يتركون أي شيء شاهدوه أو سمعوه، هذا فضلاً عن ذكر الشخصيات التي قابلوها سواء كانوا قادة أو رؤساء عشائر وقبائل، حتى أن بعضهم ادعى الإسلام لكي يدخل مكةالمكرمة مثل ما فعل المستشرق سنوك هوخرونيه، الذي مكث في مكةالمكرمة عدة أشهر، ليكتب بعد ذلك كتابه عن رحلته هذه، والتي وصف بها أهالي مكة وعاداتهم وتقاليدهم حتى أدق الأشياء لم يهملها، وكان يتخفى باسم عبدالغفار وكان قدم رسالة الدكتوراة عن الحج كمشاهدة وعيان وليس فقط اعتماداً على الكتب والمخطوطات، كما يذكر ذلك العلامة عبدالرحمن بدوي -رحمه الله- في كتابه القيم والنفيس (موسوعة المستشرقين)، وطبعت رحلته إلى مكة وهي أحسن كتبه وأفضلها، ولعله الوحيد من المستشرقين الذي دخل مكة ومكث بها مدة ستة أشهر متوالية، لكن هناك شخص إنجليزي قبله دخل مكة في القرن السابع عشر الميلادي، وهو جوزيف بنس الذي سجاه سيده يوسف وهو ثاني أوربي يزور مكة وهذا ما ذكره مترجم رحلته د. عبدالرحمن عبدالله الشيخ، وقد أسلم بنس على يد سيده الجزائري الذي صحبه إلى الحج ومن اللافت أن يوسف أو جوزيف بنس قد رسم مخططاً للمسجد الحرام في ذاك الزمن في القرن السابع عشر الميلادي القرن الحادي عشر الهجري. وشخصيتنا هذا الأسبوع العالم بل العلامة هو المستشرق جورج رنس الأميركي الجنسية الذي خدم بجدارة وكفاءة علمية الجزيرة العربية عندما كان موظفاً بشركة أرامكو، ولم يكن من هؤلاء المستشرقين أو الرحالة الغربيين الذين كان لهم أهداف سياسية أو استخباراتية، بل كانت بحوثه ودراساته من أجل العلم وكشف المجهول من أرض الجزيرة العربية. جهود علمية وكنت قرأت عن جورج رنس قبل عدة سنوات في السيرة التي كتبها صديقه الصحفي المصري المخضرم والمؤرخ وديع فلسطين في موسوعته الممتازة الرائعة (وديع فلسطين يتحدث عن إعلان عصره)، وهي في مجلدين، فأعجبت بهذه السيرة والمسيرة الحافلة بالإنجازات والجهود العلمية الكتابية والميدانية حينما كان جورج رنس مسؤولاً في شركة الزيت العربية «أرامكو» في قسم البحث والترجمة، ولمت نفسي كثيراً لماذا لم أعرف هذه الشخصية وهي في وطننا قبل هذا التاريخ من قراءتي للكتاب، وهو قد قدم خدمات علمية، ولقد أشاد به العلامة عبد الله فليبي -رحمه الله- في كتابه (أربعون عاماً في البرية)، لقد كان جورج رنس علامة بارزة في شركة الزيت العربية «أرامكو»، وأضاف إلى هذه الشركة طيلة عقدين تقريباً، وأقصد بذلك ما يخدم الشركة من حيث البحوث والدراسات ورسم الخرائط وتتبع المعلومات التي تصل إليه والتحقق منها. شخصية أكاديمية وجورج رنس شخصية أكاديمية نال الماجستير والدكتوراة من أميركا، وكانت رسالة الدكتوراة عن المماليك في القرن الرابع عشر الميلادي، ولا أعلم سبب سبب اختياره لعصر المماليك، ولعل ذلك يعود إلى أنه عاش في مصر إبان الحرب العالمية الثانية، حيث كان مسؤولاً عن مكتب الاستعلامات التابع للحكومة الأميركية بالقاهرة تسهيلاً لمهمة أهل الصحافة الذين كانوا يعتمدون على نشراته اليومية والدورية في الوقوف على البيانات الرسمية المتعلقة بالحرب ثم ما بعد مشروعات ما بعد الحرب، لهذا اعتمدت عليه الحكومة الأميركية لإجادته اللغة العربية، ولعله كذلك قرأ تاريخ المماليك من المصادر العربية وراق له هذا وكتب رسالة الدكتوراة عن المماليك. تفكير وإبداع وعندما تعيّن جورج رنس بشركة الزيت العربية -أرامكو- كان تعيينه أولاً مترجماً؛ لأنه كان يعرف اللغة العربية فيترجم من الإنجليزية إلى العربية والعكس، وذلك في قسم البحث والترجمة، ولما أثبت نبوغه في عمله هذا ومهنيته قررت القيادة في الشركة أن يكون السيد جورج رئيساً لقسم الأبحاث والترجمة في إدارة العلاقات الحكومية، وأصبح اسم شخصيتنا له حضوره في الشركة، وكان التحاقه بشركة الزيت العربية في حدود 1946م. كانت عقلية جورج رنس دائبة التفكير والإبداع في العمل والتطوير والتحديث وجلب الوسائل الحديث المتاحة في إدارة العمل، فليست عقلية شخصيتنا نمطية وتقليدية بل هي متجددة في سبيل المردود الذي يثمر وينتج في صالح الشركة، كانت إدارة وحدة البحوث العربية التي تولى رئاستها تحوي مكتبة متواضعة لا تليق بهذا القسم ولا بشركة الزيت، ولهذا منذ أن تولى هذا القسم استنفر كل الإمكانات المادية التي وفرتها له الشركة في أن تكون هذه المكتبة من أكبر المكتبات في المملكة بل في الخليج العربي وجزيرة العرب، وعزم شخصيتنا وقرر أن تكون هذه المكتبة تخدم تاريخ المنطقة وحضارتها أي جزيرة العرب، فماذا فعل حول هذا المشروع الكبير؟. مشاق السفر سافر جورج رنس إلى الشرق والغرب في العالم ككل لزيارة المكتبات العامة والجامعية وتصوير المراجع والمصادر التي لها علاقة بجزيرة العرب أو عن طريق الشراء، وبذل جهوداً في هذا الميدان الفسيح المترامي الأطراف وتحمل مشاق السفر وعانى من ذلك كثيراً، ثم صوّر الخرائط التي رسمها الرحالة الغربيون لجزيرة العرب، وبهذا أصبحت مكتبة شركة الزيت العربية من أكبر المكتبات وأغناها بالمصادر والمراجع المطبوعة والمخطوطة والوثائق التي تخص جزيرة العرب، فكانت منهلاً ومصدراً للباحثين العرب وغير العرب، وهذا كله يرجع إلى جورج رنس الذي لا يكاد أحد يذكره إلاّ القليل من العلماء والباحثين الذين قدروا جهده وعرفوا مكانته العلمية، إما من خلال مؤلفاته أو ما بذله من أعمال مميزة في تطوير مكتبة الشركة، والإنصاف لهذه الشخصية المتميزة حتى ولو لم يكتب أو يؤلف في تاريخ المنطقة، فيكفيه هذا العمل شرفاً وعظمة ولا ننسى أن مكتبة شركة الزيت العربية تحوي أرشيفاً ضخماً من الصور الوثائقية النادرة، وقد نشرت الشركة مجموعة كبيرة وممتازة من الصور الوثائقية. وذكر حمد الجاسر في كتابه (الرحالة الغربيون) أن جورج رنس ومعه أحد زملائه كان يفاوض أسرة عبدالله فليبي في شراء مكتبته بالرياض بعد وفاته، وهذا من حرصه لتزويد المكتبة بمكتبة خاصة لأحد من جاب الجزيرة العربية شرقاً وغرباً وكتب عنها مؤلفات زاخرة بالمعلومات. جبال ووديان ومن الجهود التي تذكر وتشكر لجورج رنس رسم الخرائط لجزيرة العرب، فقد تجمع جملة من الخبراء لتحديث هذه الخرائط وتولى بنفسه تحقيق جميع الأسماء المتعلقة بالجبال والوديان والمدن والقرى والشعاب، وأخذ منه هذا العمل جهداً ووقتاً في أن يكون هذا العمل العلمي في أحسن صورة موثقة ودقيقة بعيداً عن الأغلاط في أسماء المواضع عموماً، فكان يسأل ويستفسر ويتقصى حتى يتثبت من اسم ذلك الجبل أو القرية. كان من نتيجة هذا العمل أن قام جورج رنس بنشر أول خريطة حائطية للمملكة العربية السعودية في الجزيرة العربية في طبعتين عربية وإنجليزية، وقال وديع فلسطين عن هذا المشروع: «أصبحت هي الخريطة المعتمدة التي على أساسها رسمت الخرائط الجديدة لتوضيح الطرق التي أنشئت والموانئ التي أقيمت»، وذكر في كتابه (وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره): «إنني عندما زرت المنطقة الشرقية للمملكة عام 1955م لاحظت أن الدكتور رنس اختار لمكتبه أن يكون في الدمام عوضاً عن الظهران، وهو المقر الرئيس للشركة، ووجدت في غرفته عدداً من شيوخ القبائل وهو يتحدث معهم باللغة الفصحى ويجتهد في فهم لهجاتهم المختلفة، ولما سألته عن سر اهتمامه بهؤلاء قال: إنه يدرس تاريخ القبائل المختلفة التي عاشت في منطقة الخليج، وأنه حريص على الوقوف على هذه المعلومات من كل منهم شخصياً للدقة، وأكد لي أنه اجتمع بمئات منهم فسجل بعضها في كتابه «عمان»..» انتهى كلامه. عدة مؤلفات ونلحظ تلك الصورة التي جمعت جورج رنس مع الدليل المشهور لشركة الزيت العربية خميس بن رمثان -رحمه الله- الذي كانت له جهود مشكورة بذلها حينما كانت الشركة تنقب عن آبار البترول، وقد ارتبط بصداقة وعلاقة قوية مع رنس، وكتب عنه بعض الباحثين وجسدوا أعماله نحو الشركة. وألّف جورج رنس عدة مؤلفات، وأنجز مع زميله وليام موليجان دراسته بعنوان «الروافد الشرقية لمنطقة الأحساء»، وأصدر كتاب (عمان والساحل الجنوبي للخليج)، وله مقالات كثيرة كتبها وتعليقات لها علاقة بالجزيرة والخليج العربي، وكتب كتاباً عن المملكة العربية السعودية طبع في هولندا طبعة فاخرة مدعماً بالصور، وهو كتاب ضخم كان يهدى للقادة والهيئات في أميركا. ودرس رنس بثانوية بينس كولا في فلوريدا، ثم درس الهندسة في معهد جورجيا التقني، ثم انتقل مع أسرته إلى الفلبين حيث نقلت خدمات والده، الذي كان قائداً بحرياً وعاش هناك من عام 1930 حتى عام 1932م، وشخصيتنا من مواليد عام 1912م بولاية بنسلفانيا في 10 أبريل ودرس في الفلبين في جامعتها متخصصاً في الرياضيات. مدرّس بحلب بعد الفلبين قبل جورج رنس أن يكون مدرساً في مدينة حلب، وهذه لأول مرة يعيش بين المسلمين العرب، وهو مغرم بالاطلاع بل التعمق في أخلاق وعادات الشعوب، نعم لم يدرس علم الاجتماع لكن بعض بحوثه تنصب في هذا العلم، وكما قلت إنه درس لهجات القبائل في الخليج وعاداتهم، لهذا كانت قصة حلب هي البوابة الأولى لعالم الشرق والجزيرة العربية، وقد مكث بها ثلاث سنوات عاد بعدها إلى أميركا وقدم على جامعة كليفورنيا بركلي، حيث حصل على شهادة البكالوريوس من جامعتها، وهذه هي الشهادة الثانية الجامعية، حيث حصل على الأولى من الفلبين، وبعدها حصل على الماجستير والدكتوراة، وفي هذه المرحلة درس اللغة العربية على يد المستشرق الأميركي وليام بوبر، ثم انتقل بعد ذلك إلى مصر ليعود مرة أخرى إلى العالم العربي في وظيفة في مكتب الاستعلامات بمصر لنقل أخبار الحرب العالمية الثانية واللقاء بذوي الصحافة، وهناك تعرف على امرأة مصرية وتزوجها وأنجب منها أطفالاً، وذكر وديع فلسطين أن اسمها صوفي توفيت عام 1997م. عطاءات علمية وبعد 16 عاماً قضاها جورج رنس في شركة الزيت العربية، أعطى فيها الشركة عطاءات علمية وفنية وجهوداً كبيرة لتميزه وسجل اسمه في هذه الشركة، ليكون من هؤلاء الذين مروا على هذه الشركة وأبقوا آثاراً خالدة من العلم والمعرفة، فقد كان ينشر سلسلة من كتيبات شركة الزيت العربية وهي مطبوعات تصدرها الشركة لموظفيها الأميركيين عن ديانة وثقافة وأعراف المملكة العربية السعودية، كما أنه عين مستشاراً بشركة الزيت العربية عام 1954م وكلف بموضوع منطقة البريمي وكتب فيها مذكرات. عاد جورج رنس إلى أميركا وطنه الأول وتقاعد من شركة الزيت عام 1963م، ومات صديقه خميس بن رمثان عام 1959م، وعيّن في جامعة ستانفورد، كان عمله أميناً لمكتبة هوفر قسم الشرق الأوسط، وحينما استقر به المقام في هذه الجامعة لا بد أن يجدد ويطور ويبدع فما كان منه إلاّ أن قام بتزويد المكتبة بالكتب العربية والتركية والفارسية، وكان يلقي المحاضرات عن الإسلام وعن العلاقات السعودية الروسية. مكتبة استثنائية وفي عام 1976م أصبح جورج رنس عضواً في مركز وودرو ويلسون، وهو مركز دولي للعلماء في العاصمة واشنطن، ثم باحث مقيم في جامعة جون هوبكينز، ثم عاد إلى جامعة ستانفورد ليكمل مشروعاً كان قد بدأ به وهو عن الملك عبدالعزيز، لكن المرض داهمه حيث توفي عام 1987م في 22 ديسمبر، وخلّف مكتبة استثنائية مليئة بالكتب النادرة والمخطوطات والوثائق والصور ومراسلات مع المسؤولين والعلماء، يصف ويذكر الأديب الصحفي اللامع وديع فلسطين عن مكتبة جورج رنس حينما بيعت نقلاً عن مراسلة صحفية الحياة وهي رالي الزين أن مكتبة جورج بيعت بالمزاد بثمن إجمالي قدره 240 ألف دولار؛ لأنها كانت تضم مجموعة كبيرة من الكتب المتخصصة في تاريخ الجزيرة العربية، وأضافت أن كتاب لويس بلي (رحلة إلى الرياض)، والمطبوع في لندن عام 1866م بيع بمبلغ 25 ألف دولار، وبيع كتاب جوفاني بلزوني عن الآثار الفرعونية في مصر (النوبة) الذي طبع في لندن عام 1820م بتسعة آلاف دولار، وبيع كتاب وصف شبه الجزيرة العربية لنيبور الذي صدرت طبعته الأولى باللغة الفرنسية في مجلدين عام 1774م بخمسة آلاف دولار، ووصل كتاب مايلز عن قبائل وبلدان الخليج بجزئيه المطبوع في لندن 1120م أربعة آلاف دولار. لم يُسلِم وعلّق وديع فلسطين على خبر المراسلة قائلاً: «واضح من الخبر الذي استقته رالي الزين من مصدر في سان فرنسسكو أن محتويات خزانة جورج رنس من نفائس الكتب بيعت فرادى ولم تبع مكتبة كاملة متخصصة تقتنيها إحدى الجامعات الأميركية أو العربية وهي الأحق باقتدائها» -انتهى كلامه-. ويحز في الصدور أن شخصية جورج رنس الفذة عرفت الإسلام وتاريخه وتعمقت في معرفته وعاشت بين المسلمين العرب مدة ما يقارب العشرين عاماً في مصر والمملكة وحلب، لكنها لم تدخل الإسلام، ولو أسلم هذا لكان من دعاة الإسلام ولأسلم على يديه المئات لحسن خلقه وطيب معشره ونزاهة نفسه. جورج رنس وديع فلسطين أحد أصدقاء جورج رنس حمد الجاسر ذكر أن جورج رنس فاوض على شراء مكتبة فليبي رنس تحمل مشاق السفر وصوّر خرائط الرحالة الغربيين لجزيرة العرب عمل جورج رنس في شركة الزيت بقسم البحث والترجمة «الصورة من أرامكو» إعداد- صلاح الزامل