تميّزت الحروب المعاصرة في مجملها بأنّها حروب ثقافيّة صامتة في مظهرها، صاخبة في جوهرها، وهي أخطر أنواع الحروب؛ لأنّها الغاية القصوى من كلّ حرب من أجل ضمان النصر وديمومة غاياته، فخطورتها تأتي من كون أثرها يستمر طويلًا، ويحتاج إلى وقتٍ طويلٍ للتعافي إنْ كان ثمّة تعافٍ، بخلاف الحروب التقليديّة التي ما إن تضع أوزارها، حتى تعود الحياة إلى طبيعتها، وشواهد ذلك كثيرة، فما أكثر الحروب التي توقّفت وخرج الغزاة من البلدان، وبقوا في الفكر واللسان! تشمل جوانب الحرب الثقافيّة كلّ ما يمتّ إلى الثقافة بمعناها العام، بما يظهر على اللسان والعادات والتقاليد، وصولًا إلى المأكل والملبس، وأنماط التفكير والقيم، فهي مسألة خطيرة يمكن أنّ تُوصف بكينونة المجتمع والفرد، أو بتعبير أدق بهويّة الوطن والمواطن. إنّ أبسط ما يصوّر إشكاليّة الهويّة وتميّزها وتفرّدها وغناها يمكن أن يظهر عبر جولة على بلدان العالم ومجتمعاتها، للوقوف عند خصوصيتها، وتميّزها، وهو أمر صعب، لكن لو تأملنا اجتماعًا لقادة العالم، وهم مَنْ يمثلون أوطانهم وشعوبهم وثقافاتهم في المحافل الدوليّة لرأينا الزي المتماثل إلى حدّ بعيد، مع تميّز بعض البلدان، فلو أضفنا إلى المنظر الخارجيّ بُعدًا داخليًّا يتمثّل بالدول التي لم تُستعمر؛ لوجدنا أنّ المملكة العربيّة السعوديّة تكاد تكون الوحيدة في هذا الرهان. أدرك قادة البلاد أهميّة الحفاظ على هويّة المملكة العربية السعوديّة؛ فجاءت رؤية المملكة 2030 التي أطلقها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء مؤكّدةً أهميّةَ الحفاظِ على الهويّة الوطنيّة، وما تحمله من قيم إسلاميّة وعربيّة وثقافيّة تاريخيّة، فجاءت القرارات مؤكّدةً ضرورة الالتزام بها شكلًا ومضمونًا، كما أكّد سموّه متانتها، ورسوخها وتجذرها في الوجدان المجتمعيّ، معبّرًا عن رؤيته للهويّة القويّة، بأنّها القادرة على الصمود في وجه المتغيّرات، والتحوّلات، والتنوّعات العالميّة؛ إذ يرى سموّه أنّ قوة الهويّة تستند إلى أصلها المتجذّر في النفوس والعقول، ومن قابليّتها للتطوّر والنهوض، ومواكبة الزمن ومستجداته، عبر تحفيز العناصر الإيجابيّة فيها، وتجاوز السلبيّ، ليخلص سموّه إلى أنّ هويّة المملكة العربيّة السعوديّة هي من صنع أهلها، مستندين فيها إلى عمقهم الإسلاميّ، والعربيّ والثقافيّ والحضاريّ وما يحمله من عادات وتقاليد عريقة، وما يقومون به من إنجازات عظيمة، يزيد من قوتها، ويسهم في تجدّدها ورسوخها وتطوّرها. إنّ حضور الهويّة وأهميتها في رؤية المملكة 2030م تجاوز بمراحل حضاريّة كثيرًا من النظريات النقديّة والفلسفيّة إلى أفق أكثر رحابةً، وواقعيّةً أكثر عمقًا؛ وذلك حين عدّ الأمير محمد أنّ جزءًا كبيرًا ممّا تشهد المملكة من نهضة وإنجازات يعود في المقام الأوّل إلى قوة هويتها التي فرضت نفسها في العالم كأحد عناصر تشكيله، في الزي والموروث والفكر الحضاريّ والثقافيّ والقيميّ الذي تستند الهويّة السعوديّة إليها جميعها. وما يراه كلّ متأمّلٍ في المحافل السياسيّة والرياضيّة والثقافيّة والأمميّة والإعلاميّة لخير دليل يشهد على تميّزها، وعلى حضورها اللافت، وتفرّدها في العالم في المنظر والمخبر، والماضي والحاضر والمستقبل بإذن الله. د. رائد بن ثنيان الصّبح