يمثل الفن تلك القدرة الخارقة المندفعة لتجسيد إبداعي، واللغة الخاصة السحرية التي يصدر بها الفنان ذاتية للآخر على نحو غير مألوف، من خلال قدرات الولوج لدواخل وبواطن الطبيعة وقراءة ذلك، وكشف الحقائق الكامنة المستترة، وإعادة تنظيم العناصر والحقائق، لتأطير علاقات وقيم وبنائيات معاصرة تتوازي مع المحيط والاحتكاك به، لتعضيد روح قوية للبوح بالأسرار، وتعظيم الطاقات التعبيرية التي تصدرها الأفكار. عبر عمليات الملاحظة والتفسير والولوج لعوالم التجريب، ينطلق الفن والعلم من مدارات وقيم مؤسسة على تفسير مكنوزات وحقائق الطبيعة من خلال القوانين التي يرصدها العلم لتفسير ذلك، والبوح الفني الذي يستبعد كل ما هو ثانوي وينحو عن مخاض التدوين والنسخ السطحي، ليتكئ على مكنونات روحية حسية مشبعة بقيم جمالية ومفاهيمية تحفز طاقات صادقة تواكب الفكرة، وتلتحف بتداعي المعاني والشاعرية الجياشة، كبحث بصري وتنقيب استبصاري في جوانيات الطبيعة، ليعضد ذلك التوحد بين (الحسي - الموضوعي - الوسيط - الجغرافيا النفسية للمتلقي). وكفرع من فروع الفلسفة، يشير مصطلح «الابستمولوجي» للعلم والمعارف العلمية ومنهجيات البحث العلمي وكيفية اكتساب المعرفة وتبريرها، والعلمية في البحث والاستقصاء والموضوعية والضبط والتسلسل المنطقي المنظم القائم على الدليل والبرهان، ليحتفي التفكير العلمي بنوعية التفكير المنظم المتكئ على مبادئ، وتطوير المفكر العلمي لنوعية تفكيره وسيطرته بدقة مهارية على أصل التفكير والمنهجية، للوصول لفهم وتفسير عناصر المشكلة وتلمس حقائقها، لتتعدد مدارات التفكير العلمي ما بين (التفكير الناقد) الذي يحلل العوامل ويضع المعلومات في سياقها المناسب ويتعرف بموضوعية على الحقائق، (والتفكير التحليلي) الذي يتضمن البحث التنقيبي عبر الأمثلة والبيانات والدراسات ثم مقارنتها. بينما يتمحور التفكير الإبداعي حول الموضوعات بطريقة منطقية ونقدية والتعبير بتسلسل عبر عمليات البحث والتحليل المتعمق والتجريب عندما يتعرض العقل لمثير يتم استقباله بالحواس للبحث عن خبرة أو معني واضح أو مستتر غامض تتلمسه خلال التحليل والتأمل والاستكشاف التجريبي. فالإبداع مظهر من مظاهر خصوبة التفكير وطريقة النظر المستحدثة للأمور والتدقيق في أمور غير جلية للعيان، لحل مشكلات واستحضار حلول ومناظير غير اعتيادية تحتفي (بالتفكير التحليلي والانفتاح وحل المشكلات والتنظيم والتواصلية). ويندفع التفكير ما وراء المعرفي (أو التفكير في التفكير) ليحتفي بطرق التفكير المعرفية المستحدثة التي تشق آفاقا رحبة للمناقشات النظرية والدراسات التجريبية في تنوع موضوعاتي كالذكاء والتفكير والذاكرة والاستيعاب وحل المشكلات واتخاذ القرارات. الفعل الإبداعي وخصوصية المفهوم الإنساني في بنائيات «محفوظ بسطوروس»: أكاديمي قدير مكين لديه لغة خاصة وبذرة حية تخصب تزاوج (التجريد الاختزالي - طاقة التعبير)، فمن منطلقات حداثية وحقيقة تجسد روح المنحوتة وجوهرها وشخصيتها المقصودة المشبعة بقدرات تعبيرية حرة ذاتية، استجاب محفوظ بسطوروس لدوافع وقيم روحية تجسد أحاسيسه وأفكاره وتصرفاته النحتية الطموحة الثورية التي لا تنطلق داخل إطار ممنهج محدد ومقولب لتشكيل حالة ملهمة تدفع نحو استثارة مخيلة المتلقي، وتكثيف المنحوتة بمعالجات وحلول غير مألوفة تستقطب (الروحي والعاطفي - مع التعبيري الاختزالي - والمنظومة الكلية التناغم والبناء - وتوازن الذهني مع الميثولوجي - التعايش الفراغي). لتنصهر بذلك منحوتاته بأعلى درجات الاختزال التجريدي والتركيز العاطفي، لإعلاء بنائيات خاصة خلابة، لا ترتكل إلى تسجيل المواقف واللحظات والانفعالات العابرة العارضة المألوفة، وتمتد نافذة إلى الأغوار الجوانية من خلال نظرة شمولية عميقة في توازن ودينامية تجمع بين الكتل والمساحات، لشحذ سيمفونية تؤطر فهمه العميق المنضبط للمعنى واسترسال تعميق المفهوم، ودفع المتلقي لترجمة تلك الكتل، استنادا من الفنان على ثقافته رؤيته الخاصة وخبراته الشتى السابقة ودراساته الأكاديمية وتنوع المستقبلات لديه، لتغذية وإثراء أفكاره التحتية للإمساك بتلابيب الشخصية. وتطرح بذلك تصورات الفنان وفنه المكين النابع من الفكر الممتلئ بالعاطفة والتعبير، والذي تتطهر به أشكاله وأنساقه العضوية، لتصبح لصيقة الصلة بشخصية الفنان وطابعه وخواطره ومزاجه الشخصي العام، وصدقه في التعبير بحريه باعتبارهما من طبيعة الفنان ذاته وقانون وجوده، وضمن نبضه وتوجهه، فجاء العنصر الآدمي لديه بإيماءات مختلفة وإحساسات عاطفية، ليعلو البعد الإنساني عبر (شحن تعبيري وبعد رمزي وتلميح مفاهيمي) يعمق التقارب العاطفي مع المنحوتة ذات التراكيب المنظمة والقدرة على ترجمة روحانية الفكرة، وتوليد الدراما التي تعضد البناء والكثافة الرومانسية التي تولدها انسيابية الكتل وإيقاع المسطحات، والوقار والحميمية التي تولدها الوسائط، وقوة الانفعال الذي تولده اتجاهات انطلاق المنحوتات، والرسوخ أو انتفاض المنحوته من وزنها الثقلي دون استنادات طبيعية في تعايش تام مع الفراغ المحيط، وتحرر من قيود الجاذبية والثبات الارتكازي، لصالح الارتباطية العميقة بالفراغ لدعم الصرحية والانسيابية والامتداد والحضور والهيبة والسمو. فامتلك محفوظ بسطوروس قدرة وتمكن في توظيف الفراغ الداخلي الناشئ من التحام الأسطح في بناء الشكل وتدشين التناغم مابين الفراغين الداخلي والخارجي، فأعماله ليست مجرد بنائيات تجريدية فقط، بل كيانات نابضة تستند لأسس فكرية إنسانية مشحونة بفعل العاطفة والتعبير، وطرح الحداثي في النظم والعلاقات البنائية والتراكيب، والعلاقة مع القاعدة، والدراية بطرق التركيب والتشكيل في التعامل مع أعماله في هيئات تحقق مفهومه الفراغي الحركي، لينطلق مرجوع ذلك لما يتمتع به الفنان من قدرات إبداعية تفاعلية صيرورة مع التقنية والوسائط وفق مفاهيم محددة عززت الفعل الإبداعي والحرية لدي الفنان، وتحفيز مكتنز الفنان ومخزونه التصوري لتدشين توجهات تعبيرية بموازين حداثية تنطلق من جذور مصرية تراثية ذات هوية وتنقيب في التاريخ والاتساق مع تعاليم الفن المصري القديم والموروث الوطني، ومعاصرة ذات توجهات حداثية تكتنز المعاني والمضامين والتي تتشكل في تدفق إبداعي رصين داعم لأفكاره وتعابيره والحوارية العاطفيه الفياضة. *الأستاذ بكلية التربية الفنية المساعد-جامعة حلوان مزاوجة التجريد الاختزالي وطاقة التعبير تجسيد روح الشخصية ومكنوناتها التوازن الذهني مع الميثولوجي والتعايش الفراغي بنائيات معاصرة تتوارى مع المحيط والاحتكاك به الامتداد والهيبة والحضور الفني