تؤسس المملكة العربية السعودية ملامح حداثية معاصرة لتشكيل وصياغة مشهد الفنون البصرية المحلي بهدف تهيئه مناخ إبداعي ابتكاري وحراك فني نشط يتسم بالعالمية التي انطلقت جذورها من المحلية، عبر التخطيط والتشييد ووضع الاستراتيجيات، لتأتي الرؤى الطموحة ضمن الاستراتيجية الشاملة لرؤيه المملكة 2030 في جوانبها الثقافية، وأبعادها المتعددة التنموية، لتعلي من قيمه الفنون البصرية، وتعزز طموح الفنانين. بواكير سلسلة المعارض الفردية «بمسك» تحتفي بالرواد: تحتفي مؤسسة "مسك" ببناء استراتيجية حيوية، وإنجازات نوعية، برؤية مؤسسها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، عبر حزمة من البرامج والمبادرات الحداثية المتفردة لتشكيل خارطة التغيير الإيجابي وتمكين الشباب ومنحهم الفرص ودعهم ماديا ومعنويا للإفادة من قدراتهم الكامنة بما يؤهلهم للريادة في الفنون البصرية محليا وعالميا ووضع البصمة الفنية السعودية على خريطة الفن العالمية. ليتنامى دور مسك نحو تحفيز الأعمال الإبداعية والارتقاء بها إلى مستوى التمثيل الدولي، وتسطير لغة فنية متفردة ذات خصوصية تثري الفن العالمي، وتشكيل ممرات إبداعية نحو التطوير ودعم الممارسة الفنية، لتصبح المملكة مركزا لتذوق الفن داخل المجتمع المحلي، والاحتفاء به، وشحذ المواهب الفنية وتمكينهم، وتعزيز حالة ثقافية متفردة تثري الثقافة العالمية. لتمهد بذلك دروبا وممرات إبداعية نشطة، وتشق قنوات التواصل مع الآخر إبداعيا بهدف صناعة الفرص لأجيال متعاقبة ترنو بأفكارها نحو أفاق شاسعة، بغرض تنمية مهاراتهم لإبداع أطروحات فنية مستحدثة يستثمر فيها قدراتهم الكامنة، باعتبارهم خارطة التغيير الإيجابي، وركيزة الغدِ المنشود عبر حزمة من البرامج والدورات التخصصية وورش العمل وسلسلة المعارض الفردية والجماعية والأمسيات والندوات الثقافية. واحتفاء برواد الفن السعودي ذوي الدور الفاعل في تسطير المشهد الفني بهدف تأطير مشروعهم الفني والتعريف وتجربتهم الإبداعية مسارها التطوري، نظم «معهد مسك» للفنون التابع لمؤسسة محمد بن سلمان «مسك» العديد من المعارض مثل سلسلة المعارض الفردية»رحلة إبداع وأثر»، بصالة الأمير «فيصل بن فهد للفنون» في نسختها الأولى في معرضين فرديين يضما أكثر من 70 عملا فنيا، لرائدين هما (يوسف جاها-طه الصبان)، كإحدى اللبنات والخطي الفاعلة في تعزيز الدور الحيوي للمعهد لدفع وتنمية وإثمار القطاع الإبداعي، وفتح نوافذ الإبداع لرواد الفنانين. «تحري المطر» عند يوسف جاها: وجاها هو الأستاذ والفنان والمصور الذي تلقى على يديه معظم فناني اللوحة التصويرية، التعاليم المنهجية والتفكير الفلسفي، كشخصية مرموقة مشاركة في العديد من المحافل الدولية، وأحد المحركين الراديكاليين الفاعلين بمشهد البصري السعودي كصاحب تجربة متمايزة ذات الأنساق والتشعب البصري والعاطفي، لتترجم أشروحاته بلا مبالغة قدرات مكينة لتوجه تعبيري على نحو رمزي دافعه الأول هو التأمل والتفكير المتعمق في الموجودات ومكنوزاتها، والقصدية في التنقيب عن الجوهر، توازيا مع شواغل فلسفية وإنسانية، وموازين تراثية ومعاصرة نابضة ترتبط بالزمان والمكان، وإضفاء المؤثرات التي تغرق المتلقي في التجربة الحسية لأعماله. وامتلك جاها حداثة وفرادة التوظيف الفكري والبصري للوسائط لدرايته المكينة بدورها في البناء وتسطير الفكرة وتفاعلها مع هيئة الشكل وطرق تنظيم مواده الفنية لتتلائم مع مواده الروحية والنفسية لتحقيق القيم الكيفية والنوعية لاقتناص أهدافه الفنية ودعم وجوده العاطفي، عبر التجريد والاعتماد على مساحات نابضة بالحيوية والصيرورة بما يصبغه بالتعابير التي تعضد الهوية ووضوح الخصوصية والطقس الشاعري الخلاب. وجاها كفنان شغوف ذو ملكات اتصالية واسعة وقدرات تنظيمية ومبادرات فوق المسطح التصويري، اندفع لاستثمار أساليب أدائية تعزز وجود الفكرة، وتعلي حالة من الشفافية تمكن المتلقي من العبور روحيا والولوج داخل أغوار العمل، من خلال تشكيلاته الحاضرة الواعية بحكمة والتي تنطلق من عمق التأمل والدراسة والتحليل والخيال الميثولوجي، والنحو عن الاصطلاحية الخالصة والتمكنات التقنية. ومن هذا الدور الذي شكله جاها على قصة الفن في المملكة، انطلق معرضه الفردي «تحري المطر» لتوثيق الاهتمام ببيئته ومحيطه العمراني عبر سلسلة أعماله بين 1991- 2022م، بتجلي الربط بين التوثيق المعماري والتعبير الفني التجريدي، واحتلال الغيوم مركز الصدارة وتقدم منظور التصويري كأسلوبية راسمه لأعماله. ليتوازى بذلك الفنان مع المفاهيم السائدة في عصره، والربط بين الحدث الفني والقيم التي يحملها كإسهام منه وقيمه تجاه الحياة العصرية، في تلخيص وإيجاز للموجودات والقيم الإنسانية في تأكيد على تحرر الفكر الفني من الحدود الاستخدامية المتوارثة فنيا، فأعماله وليدة حالة انفعالية دينامية بترويض المساحات والكتل اللونية داخل النسيج الكلي الإبداعي، «عقيلة الخيال» عند طه الصبان: دعا الفيلسوف»كين بل» لحرية الفنان المطلقة في الاستخدام المجرد لعناصر العمل الفني واعتبار القيمة الجمالية مستقلة عن المضمون والبحث وراء الحقيقة المفردة، لتتلخص مهمة الفنان في دوره كمحور رئيس يحدد قيمة العمل الفني، ليسطر تواجده وحضوره في أشروحاته الفنية، فبقدر تواجده انبثق أسلوبه وشخصيته ورأيه وذاتيته التي تحصن القيمة البصرية والجانب الفكري الذي يمايز منهجيته. وعبر التصوير المفعم للشخوص، واستكشاف موضوعات المجتمع السعودي، وتلمس الحياة اليومية وعناصرها، تزايدت أطروحات طه الصبان مع المراقبة والتأمل ومشاهدة الشخوص، عبر اختزال مكين يرنو بشكل مباشر وغير مباشر والتي يتفاعل معها المتلقي، فظهرت في عدة أعمال المرأة كركيزة أساسية وقاعدية استلهامية لتشخيص العمل، كأنثى وأم وأخت بألوان دافئة تشحذ طاقاتها وتصدر حضورها والتحافها بالدأب والعمل الصيروري. فلم يقولب الفنان شروحاته داخل أنساق محددة، وحبس خياله وأحاسيسه ومشاعره، واتباع أنماط استهلاكية رائجة، بل انطلق الصبان نحو تسطير ملامح خاصة تصدر الفهم والوعي وخبرة الفنان وذاكرته الأيقونية الفذة، والاحتفاء بإنعاش ذاكرته لتلقى الفكرة صداها، ويتوازى الوعي الصيروري عبر استشعار الفنان لولوجه الكلي في مزيج تعبيري متشابك ومتضافر والذي لا تستطيع الواقعية تجسيده، وتصدير الملامح الدلالية واجترار المكنونات الداخلية، والبهجة والدهشة والتفاعل التجاوبي والأثر الباقي الراسخ في عقلية ووجدانية الجمهور. ولم يطرح الفنان تراكيبه مباشرة علي المسطح التصويري، بل جاءت عبر أقصى درجات الفعل الحركي والتعبيري وتخليق البقع وتوتراتها على السطح، والعوالم الخاصة ذات الإيقاعات الموسيقية الصداحة التي تهدف لإثراء العلاقات البصرية والفكرية واعلاء لغة الصورة، لشحذ مخيله المتلقي واثراء الذائقة الفنية لديه،وطرق استقباله دونما قيود أو معوقات. ووظف طه الصبان في تجاربه رؤى اختزالية حالمة تعلي جانب التعبير المطلق، للوصول إلى صدى بصري يترسخ في الأذهان، وإعلاء أغراض رمزية وتعبيرية تهدف لإبراز أهمية وجلال الشخصية والفكرة، مع حركة العناصر الحرة حول المفردات الأخرى لإضفاء إحساس حركي للتعبير عن حركات عنيفة متواترة داخل المفردات الرئيسية وزيادة تأثيرها البصري. *الأستاذ بكلية التصاميم والفنون المساعد-جامعة أم القري