بعض أمانات المناطق مبادرة أكثر من غيرها وتصدر أنظمتها الخاصة، فمثلا أمانة الشرقية منذ عقود كانت تسمح بتحول الطابق الأرضي إلى مواقف سيارات في عمارات الشقق السكنية دون أن تحسبه في نسبة البناء، وكنت أسأل لماذا لم تتبنَ أمانة الرياض هذه الفكرة مما جعل شوارع المدينة تكتظ بالسيارات.. بدأت ممارسة التصميم رسميا في اليوم الأول من العقد الأخير من القرن العشرين (1 يناير 1990م)، ومنذ ذلك الحين لاحظت أن تصميم المسكن يمثل إشكالية أساسية، ليس لكونه مشكلة تصميمية معقدة، بل لكونه يرتبط مباشرة بالحاجات الضرورية للناس، ويمثل لهم ركيزة الاستقرار. في المقابل كانت الأنظمة العمرانية تحد من مرونة التصرف في التصميم لتلبية احتياجات الأسرة، إلا إذا كانت مساحة الأرض كبيرة، وهذا دفع بكثير من الناس للانتقال من تملك الأراضي الصغيرة إلى الأراضي الكبيرة منذ عام 1975م. في الفترة التي بدأت أمارس فيها التصميم كانت مساحة 600 متر مربع للأرض تعتبر الحد الأدنى وبعدها يصبح المسكن صغيرا، وكان هناك تضخم كبير في المساحات المبنية نتيجة لتراكم الطلبات الاجتماعية خارج حاجة الأسرة الفعلية، خصوصا فراغات الضيافة، لكن هذه الظاهرة لم تستمر طويلا فعند نهاية القرن الماضي ظهرت تحولات كبرى في الرغبات السكنية لدى الأسرة السعودية، وفي تلك الفترة كنت قد أنهيت أطروحة الدكتوراة (1998م) التي تتبعت فيها تحول التفضيلات السكنية لدى الأسرة السعودية وأسباب تلك التحولات، ووجدت أن هناك الكثير من الأسباب غير المبررة التي يمكن تلافيها والعودة إلى حجم المسكن الطبيعي. منذ تلك الدراسة وحتى اليوم أنقضى أكثر من ربع قرن، وتبدلت أغلب الأنظمة والقوانين الخاصة بالمسكن، إلى درجة أنه لم يعد هناك حاجة إلى "التحايل على القانون" للاستفادة من مساحة الأرض، فكل ما كان يعمله الناس بعد حصولهم على الكهرباء وإجراء التعديلات بعد ذلك أصبح مسموحا. يجب أن أذكر أنني من الذين كنت أصمم البيت بطريقتين، الأولى من أجل رخصة البلدية والثانية التي ستنفذ فعلا، وهو تصميم مليء بمخالفات لنظام المسكن، لكن جميع تلك المخالفات أصبحت ضمن النظام اليوم، بل إن التعديلات الأخيرة التي أجازها النظام تتجاوز كثيرا من الذي كنا نفكر في مخالفته، يجب أن أشير إلى أن أغلب المهتمين بمهنة العمارة لم يكونوا مقتنعين بالنظام، وأذكر أن الجمعية السعودية لعلوم العمران قادت حملة في مطلع الألفية الثالثة لتعديل بعض البنود التي تتيح للساكن حرية أكبر للتصرف في أرضه دون إهدار مساحات لا يستفيد منها أحد وتزيد من الأعباء البيئية والتشغيلية على الأفراد والدولة، لكن تلك الحملة لم يكتب لها النجاح. لم يكن التحايل على أنظمة السكن إلا من أجل تعزيز كفاءة استخدام الأرض والتقليل من مساحاتها المهدرة، وهذا ما دفع بوزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان خلال الربع قرن الأخير إلى تبني الأفكار التي كان ينادي بها كثير من المتخصصين قبل ذلك، ولم تكن ترى الوزارة حاجة لها، لكن مع تناقص العرض في الأراضي وزيادة أثمانها وتوجه كثير من الأسر الشابة إلى المساكن الصغيرة تغيرت بوصلة الوزارة بالكامل وصارت تتبنى أنظمة تسمح بتقسيم الوحدة السكنية وتلاصقها وغيرها من أنظمة تجعل من مساحة الأرض الصغيرة مقبولة وقادرة على استيعاب فكرة "المسكن الصغير" المعاصر. يمكن أن نذكر هنا أن كثيرا من الدول التي سبقتنا، خصوصا بريطانيا، مرت بتجربة تقسيم المساكن وتصغير حجمها والسماح بالبناء على الصامت خلال القرن العشرين، وكلما تغيرت معطيات المجتمع وثقافته تغيرت الأنظمة كي تتوافق مع هذه المتغيرات، في اعتقادي أن المسكن السعودي في المستقبل سيحتاج لمزيد من التنظيمات التي تسمح بالبناء على الصامت كليا وتقسيم المساكن الكبيرة إلى وحدات صغيرة، وهذا يعني تغييرا شاملا في كثافات الأحياء السكنية ويتطلب تطويرا أكثر شمولية للبنية التحتية. خلال السنوات الفائتة، كتبت العديد من المقالات حول المسكن والأنظمة العمرانية، وركزت في حديثي في العديد من المناسبات أن كل مدينة سعودية لها خصوصيتها، وأن الأنظمة العمرانية الشمولية لا تتوافق مع الجميع، فما هو مناسب للرياض ليس بالضرورة أن يكون مناسبا لتبوك أو حائل أو المدن والقرى الأصغر، بعد صدور الأنظمة الجديدة للمسكن وصلتني ملاحظة من الصديق عبدالمحسن الذياب يشير إلى هذه الملاحظة، وأن طبخ الأنظمة بشكل شمولي دون مراعاة الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمناخية بين مدن المملكة فيه إجحاف كبير بالأنظمة نفسها وببلد كبير مثل المملكة العربية السعودية بتنوعه الجغرافي والثقافي والاجتماعي. الحقيقة أن بعض أمانات المناطق مبادرة أكثر من غيرها وتصدر أنظمتها الخاصة، فمثلا أمانة الشرقية منذ عقود كانت تسمح بتحول الطابق الأرضي إلى مواقف سيارات في عمارات الشقق السكنية دون أن تحسبه في نسبة البناء، وكنت أسأل لماذا لم تتبنَ أمانة الرياض هذه الفكرة مما جعل شوارع المدينة تكتظ بالسيارات. ومع ذلك يجب أن أقول إن ملاحظة الصديق الذياب وغيرها من ملاحظات قديمة كلها تصب في الغياب الكبير لمركز متخصص في العمران يكون مسؤولا عن الدراسات وعن تطوير الأنظمة، هذه الفكرة التي طال انتظارها آمل أن ترى النور قريبا. يركز كل المهتمين بدراسات المسكن على مسألة "التغيير" وبعضهم ذكر أنه "عنما ينتهي بناء المسكن يبدأ التغيير" في إشارة واضحة إلى أن الأنظمة والقوانين الخاصة بالمسكن يجب أن تواكب التغييرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وحتى التقنية السريعة، البطء الذي تعاني منه تكيف الأنظمة لدينا مع الواقع الذي نعيشه يعرض قطاعا كبيرا من الناس للمعاناة ويثقل كاهلهم اقتصاديا ويزيد من الهدر غير المبرر.