يؤكد الباحثون والدارسون لتطور نمط المسكن السعودي، أن التغيرات الأساسية، في هذا النمط، كانت مؤسساتية، وأن البداية كانت مع شركة (أرامكو) في مشاريع إسكان موظفيها، وبعد ذلك أمانة مدينة الرياض، حين قامت بإنشاء حي البحر الأحمر (الملز)، حيث تم تغيير النمط العمراني للمسكن السعودي، من النمط التقليدي (الشعبي)، إلى الحديث (الفيلا المبنية بالخرسانة المسلحة)، الأمر الذي أدى إلى تثبيت نمط الفيلا الخراسانية كنمط سائد للمسكن السعودي، حتى يومنا هذا. رغم كل ما مر ويمر به المجتمع، من تغيرات اقتصادية واجتماعية وتكنولوجية، أدت إلى تغير احتياجات المواطن، وبالتالي ستؤدي إلى تغير في نمط المسكن السعودي. فالواقع، اليوم، يحتم علينا تغيير الصورة النمطية، للمسكن السعودي، لدى المواطن، ولكن كيف يمكننا خلق ثقافة اجتماعية جديدة، تركز على أن المسكن حق وعامل أمان، أكثر منه مظهر من مظاهر الاستعراض الاجتماعي والاقتصادي؟ المالك هو المهندس المعماري يقول، الباحث المتخصص في علوم العمارة صلاح الغامدي: «إن المسكن السعودي الحالي والمتمثل بالفلل هو الأكبر عند مقارنته بغيره من المساكن في دول العالم من حيث مساحة البناء وعدد عناصره بالنسبة لعدد أفراد الأسرة. وأن هناك مبالغة غير مبررة في متوسط حجم المسكن السعودي، حسب متوسط حجم الأسرة، وللأسف فإن دور المهندس المعماري، في تقديم النصائح المعمارية، ودراسة الاحتياج الفعلي للأسرة، بدأ يتلاشى في ظل ضغط مالك المنزل، الذي يفرض آراءً غير منطقية بالنسبة للمساحات أو اختيار مواد البناء، بل إن البعض يحصر دور المهندس في إنتاج الرسومات المعمارية، أو تنفيذها على أرض الواقع فقط!». ويرى الغامدي أن لا بد من إيجاد حلول تساهم في ضبط الثقافة السكنية، وتوفير بيئة عمرانية مميزة وجذابة، تستجيب لكافة المتطلبات الإنسانية والمؤثرات البيئية، وتتنوع فيها القيم الجمالية، وتتناسق فيها عناصر البيئة المبنية، وكذلك خفض تكاليف البناء والتشييد. ويضيف: «على المدى القصير والمتوسط، أعتقد أن التمدد الرأسي، من خلال وحدات سكنية صغيرة، أو شقق في أبراج عالية، سوف يساهم، بلا شك، في تغيير ثقافة السكن في المملكة العربية السعودية. كما سيسهم في إحداث تصحيح، ومن ثم توازن في السوق العقارية. فإذا تحول المواطنون، وخاصة ذوي الدخل المتوسط والمحدود منهم، إلى الشقق والوحدات الصغيرة، فإن السوق ستضطر إلى التراجع، بسبب قلة الطلب على الفلل، كما أن القطاع الخاص، متمثلاً بالمطورين العقاريين، سيتجه إلى الوحدات الصغيرة، التي ستقلل التكاليف على المواطن، مقارنة بالفلل والوحدات الكبيرة. ولا شك أن فكرة الاستدامة في المشاريع، وخاصة المسكن، يجب أن يكون حاضراً من الناحية الاجتماعية، فيما يتعلق بثقافة وتوعية المواطن باحتياجه الفعلي من المساحات، والذي سوف يؤثر، بشكل مباشر، على الناحيتين البيئية والاقتصادية». ويشدد الغامدي، على أن عملية تصميم السكن، يجب أن تتم وفق دراسة احتياجات الأسرة الفعلية، وعدم التأثر بأمور ليس لها علاقة بتلك الاحتياجات، كبعض المظاهر الاجتماعية، والإسراف والتبذير، وكذلك التخطيط غير المدروس للمستقبل. لأن كل هذه الأمور ألقت بظلالها على ثقافة توفير المسكن الملائم لاحتياجات الأسر السعودية. لافتاً إلى: «أن سياسة الإسكان، في المملكة العربية السعودية، على المدى الطويل، يجب أن تكون أكثر فاعلية من مجرد بناء مساكن حسب، خاصة إذا أردنا تغيير سريع وفعال، يتماشى مع رؤية المملكة 2030، بل يجب أن يتعدى دورها إلى سن قوانين، وعمل دراسات، يشارك فيها الأكاديميون والقطاع الخاص، لتحديد المساحة المثلى للعائلة السعودية، من خلال وحدات كبيرة أو صغيرة، بما يتناسب مع متوسط دخل الأسرة. وكذلك إيجاد نماذج مختلفة، تتناسب مع احتياجاتنا الفعلية، وتساهم في تغيير ثقافة وفلسفة السكن لدى المواطنين، وبالتالي، فإن هذا، سوف يساعد في خفض تكاليف البناء وتحقيق الاستدامة». المجتمع السعودي أكثر وعياً وأكثر تفهماً لواقعه المستشار والمطوّر العقاري، عبد الرحمن النصيان، يرى أن المجتمع السعودي، كغيره من المجتمعات، يتغير وتتغير أفكاره ومفاهيمه، سواء الاجتماعية أو الاستهلاكية أو حتى مفهوم كيان العائلة. وهذه سنة الحياة. فالمجتمع السعودي، كما يقول: «اتصل بالمجتمعات الأخرى أكثر، وزار بلداناً لم يكن يعرف موقعها على الخريطة، واطلع على ثقافات ومفاهيم اجتماعية وثقافية واقتصادية واستهلاكية عديدة. فحين يسافر خارج الوطن، فهو يخرج من بيته الذي لا تقل مساحته عن 1500م2، ويجلس فترة شهرين أو أكثر، في مساحة 150 م2، ويتأقلم معها، بل ويستمتع في الحياة فيها. وهذا يعني أن التأقلم بالنسبة للسعودي، ليس أمراً صعباً. خاصة وأن ثقافتنا في التوسع السكني، تفرض علينا مصروفات تشغيلية، لم نحسب لها حساب. فكل متر مربع نتوسع فيه يفرض رسوماً تشغيلية (كهرباء، صيانة، زراعة.. إلخ). كما أن العادات العائلية اختلفت، أيضاً، فقديماً، كان يجب عليك -حين تريد أن تبني مسكنك الخاص- أن تراعي جملة من الأمور، مثل: وجود مكان للضيوف في المناسبات المتوسطة والصغيرة، بعض الأولاد قد يسكنون مع والديهم في نفس المسكن، مكان اجتماعات العائلة الصغيرة، وغير ذلك، مما كانت تفرضه الثقافة الاجتماعية. لكن، اليوم، كل هذا اختلف، بوجود الاستراحات والشاليهات والمزارع والمخيمات، وأيضاً المطاعم والقاعات، وغيرها من الأماكن، التي يمكن أن يستفيد منها الشخص في كل ما ذكر». ويؤكد النصيان أن كثيراً من المفاهيم تغيرت لدى المواطن السعودي وخاصة بعد أن أدرك بفعل التجربة، أن بناء مسكن العمر، كان يرتب عليه التزامات مالية وديونًا، تؤثر على احتياجاته الضرورية، فضلاً عن رفاهيته ورفاهية عائلته. ويبقى على هذه الحال فترة طويلة من الزمن، يسدد فيها التزاماته. أما اليوم: «فقد تغيرت نظرة المواطن. وأصبح يوازن الأمور بجدية أكبر. من خلال خفض بعض بنود المسكن، لتتلاءم وحاجته متوسطة المدى، ووضع خطة لمراحله المستقبلية، إن احتاج للتوسع والزيادة. المجتمع السعودي، الآن، أكثر وعياً، وأكثر تفهماً لواقعه، وبدأ في تغيير نظرته لحاجاته الفعلية. كما أن المستثمر والمشرّع العقاري يجب أن يراعي هذا التغير، وأن يوجد البدائل والحلول المناسبة للمرحلة». بيئة سكنية وليست بيوتاً متراصة على شارع المسكن سلعة، كغيره من السلع، تحدده وتشكله محددات أساسية، من أهمها الوضع الاقتصادي. بهذه العبارة افتتح المعماري، عبدالله الدخيل الله، مداخلته، وتابع: «على مدى التاريخ، نلاحظ أن مستوى دخل الفرد يؤثر، بشكل أساسي، على مستوى مسكنه وملبسه ومركبه. في فترة الطفرة الأولى، في المملكة العربية السعودية، قبل 30 سنة تقريباً، ارتفع مستوى دخل المواطن، بشكل سريع، وارتفع معه مستوى مساكنهم، من مواد بناء ومساحة للوحدة السكنية. أيضاً عدد أفراد الأسرة كان أكثر من الوقت الحالي، ما رفع مستوى متوسط مساحة المساكن. أما اليوم، فإن المستوى المعيشي للفرد السعودي مختلف، وعدد أفراد أسرته قل كمتوسط. ومعلوم أن ثقافة المجتمعات تتغير بسرعة، في الصعود أو التحسن في المستوى المعيشي، وتكون بطيئة في النزول، أو التغير من مستوى معيشي جيد إلى مستوى أقل». ويرى الدخيل الله، أن إحداث نقلة في ثقافة المواطن، نحو المسكن بشكله الجديد، مرهونة بالمطوّر العقاري: «إذا امتلك الجرأة لخلق بيئة سكنية «Community»، وليس بيوتاً مرصوصة على شارع. هذه البيئات ستقدم خدمات كثيرة، تكون مغرية للمواطن أكثر من المسكن التقليدي. فالمشكلة الأساسية التي يواجهها المطورون هي الاشتراطات والتشريعات التي تحد من تقديم نماذج جريئة، وتحتوي على أفكار جديدة ومطلوبة لدى المستخدمين. إضافة إلى تسهيلات وبرامج تمويلية للمطورين، لتشجيعهم على ابتكار منتجات متعددة، تلبي احتياج المواطنين بعدة أشكال، سواءً عمائر سكنية، فيها بيئة داخلية وأمان وخصوصية للسكان، وتكون أرخص وبمساحات خدمية مشتركة، مثل المسطحات الخضراء، والمسبح والمواقف وغيرها. أو مجمعات كبيرة لوحدات سكنية». ويلفت الدخيل الله إلى أن: «وجود تسهيلات في الاشتراطات، وفي إجراءات البلديات والأمانات، ومرونة إصدار تصاريح المشروعات الإسكانية للمطورين العقاريين، سيسهم في جعل الاستثمار في المشاريع السكنية أكثر إبداعاً وأكثر جاذبية، وسيحفز المطور على مراعاة الإبداع في التصميم، والكفاءة في استغلال المساحة، والإتقان في التنفيذ وتقديم الضمانات، فالمطور العقاري لا بد أن يرى مرونة وفائدة مادية للاستثمار في هكذا نوع من المشاريع ليبدع ويبادر ويرفع سقف المنافسة، لتقديم منتجات فيها قيمة مضافة، تعجل من تغيير ثقافة المجتمع من المسكن التقليدي إلى نوع جديد من المساكن، فيه ما يحتاجه وبتكلفة مناسبة له». ويختتم بأن: «المواطن السعودي، كغيره من مواطني الدول الأخرى، يبحث عن مسكن يناسب احتياجه، في بيئة آمنة وجميلة، ومبنى مصمم بإتقان ومنفذ بجودة عالية وضمانات، ونظام تمويلي يساعده، وييسر له تملك هذه الوحدة. فالمعادلة ليست سهلة أبداً، إذا لم يقم المطور العقاري بدوره، وهو تطوير بيئات وليس بناء مساكن متراصة على الشوارع». بين الفكر التقليدي والفكر الاستثماري أما بندر محمد الضحيك مدير عام شركة عنان العقارية، فيرى أن التحدي الرئيسي لحل هذه الإشكالية يتمثل في تغيير فكر المواطن، من النمط التقليدي إلى النمط الاستثماري: «وذلك بإقناع المواطن بأن المبلغ المدفوع لقيمة فيلا سكنية واحدة، بالإمكان استثماره في عدد ثلاث شقق سكنية، يعيش في إحداها، ويقوم باستثمار الشقتين الأخريين، والاستفادة من المبلغ الوارد، في تحسين معيشته، ومن ثم الاستفادة منهما، مستقبلا، كمسكن لأبنائه. كما يجب على المواطن أن يعي بأن تكلفة صيانة وتشغيل الفيلا السكنية، ذات المساحة الكبيرة، يكلف أضعافاً مضاعفة، عن صيانة وتشغيل الشقة السكنية محدودة المساحة، كما أن المساحات المهدرة، في المجالس والغرف الإضافية، مثل (المقلّط) وغيره، إنما هو على حساب المساحات المتبقية ذات الاستخدام اليومي كغرف النوم، أو الصالة العائلية». ويعتقد الضحيك بأن هناك مهمة منوطة بالإعلام، تتمثل في الشرح والتوضيح للمواطن، بأن الدول المتقدمة تخطت المساحات السكنية الكبيرة، وأصبحت تكتفي بالمساحات ذات الاستخدام اليومي، بحيث تكون المساحة واسعة وذات سلاسة بالحركة والتنقل. ويضيف: «كما أن لشركات التطوير العقاري دور مهم، في محاولة بناء شقق سكنية تتماشى واحتياج المستفيد، من مساحات وخصوصية وخلافه. ولا ننسى دور هيئة العقار في شرح أهمية المجالس السكنية، للعمائر ذات الشقق المتعددة، لانتخاب مجلس يتولى عمليات الصيانة والتشغيل. إذاً، فالعملية تكاملية للحصول على جيل مستقبلي، بثقافة سكنية جديدة، تتناسب والعصر الحديث، بكل ما يفرضه من تحديات اجتماعية واقتصادية وثقافية أيضاً».