(الغياب) خدعة هي فكرة المسافات؛ لأن الأميال والسنوات الطويلة لن تكون عائقًا لمن يرغب في الاستمرار، ولمن يرغب في البقاء، المسافات عذر ابتدعه الغائبون، فلا أحد يذهب دون رغبة، ولا أحد يستمر دون قرار، ولا أحد يكمل الطريق مرغمًا؛ فالمسافات تقلصت بعد غزو وسائل التواصل المتعددة، والتي جعلت من العالم قريةً صغيرة، وجعلتنا نتشارك التفاصيل وإن أقصتنا الجغرافيا، ربما تفصلنا المدن والقارات وظروف الحياة، ولكن تظل هناك نقطة اتصال ومساحة حب لا تعترف بكل وسائل الانفصال المادية، فهناك من يغيب حضوره الملموس، ولكن يتواجد بروحه وسؤاله واهتمامه، هناك من يمد حبال الوصل في حالات الرخاء وحالات الشدة، هناك من تحيطنا مشاعره الآمنة رغم كل شيء. حين غادرت جارتنا القديمة المكان قبل خمسة وعشرين عامًا لم تعُد ولكنها تركت ذاكرتها هنا، وأصبحت تزورها وتزورنا بين حينٍ وآخر بذات الحب وبذات الشغف، فقد زارتنا بالرسائل الورقية ثم بالرسائل الإلكترونية، وزارتنا بالمكالمات الهاتفية ثم المكالمات المرئية، تتبعتْ التحديث الزمني والتقني لتحارب الغياب، زارتنا بالكلمات وبالهدايا وحتى بالكنزات الصوفية التي حاكتها بيدها وبعثتها بكل حب، الغياب اختيار وليس إجبار، الغياب يلد في الروح ويكبر فيها، لم تكن الجارة القديمة هي فقط مثال على الوفاء بل الدائرة ما زالت متسعة بالنبلاء، ربما نشعر بالغضب من أولئك الذين غابوا دون سبب، ونشعر بالأسى على أيامنا القديمة معهم، ولكن في اعتقادي أن الانسلاخ عن الهوية وعن الأصدقاء القدامى وعن البيئة العائلية، ليست سوى محاولات للهروب، وربما هي مشاعر معتمة عالقة بداخل أرواحهم، في اعتقادي أنها رغبة حقيقية للتخلص من الماضي، والتجرد من الواقع، ربما نحن لسنا بحاجة لأولئك المتحولين ولكن التخلي مؤذٍ جدًا، والتنكر للأصدقاء وقْعُه بشع، وكما غنى طلال مداح: (كان العشم أكبر.. ألا كان العشم أكبر..). الخيبة تكون كبيرة لأن سقف توقعاتنا كان مرتفعًا ولأننا ما زلنا نحمل دفئنا القديم، فمع الأيام والنضج أيقنت أننا لم نفهم الحياة من خلال العمر بل من خلال الأشخاص، أيقنت أن العلاقات البشرية غزيرة بالشعور، متأرجحة بين الانطفاء والضوء، وبين العلو والانخفاض، فالسلام على الذين غادرونا دون أن يثقبوا شيئًا منا، دون أن يصيبونا، دون أن يتركوا لنا ذاكرة ملتهبة.