في ظلّ المشاهد العنصريّة التي تملأ الشاشات، ومواقع التواصل الاجتماعيّ في أماكن تحمل إرثًا يفوح بالممارسات العنصريّة، وغير الإنسانيّة، تحضر إلى الذاكرة ما يقابلها في الثقافة العربيّة الزاخرة بمكارم الأخلاق التي جاء الإسلام معزّزًا لها؛ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (إنّما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق) ومن تلك الأخلاق التي أخذت الصدارة في صفات العربيّ النبيل، حماية الجار. فرعاية ذمة الجار، في حضوره وغيابه، من مفاخر العربيّ التي لا تكتمل من دون صونها مروءته، بصرف النظر عن مكانة الجار الاجتماعيّة، بل إنّ هناك من لا يقصر مفهوم الجوار وحقوقه على بني البشر، وإنّما تعدّاها إلى مخلوقات الله الأخرى؛ فحماية الجار عنوانٌ لمكارم الأخلاق العربيّة عبّر عنه الشعراء ومنهم السموءل في قصيدته البديعة التي منها: وما ضرّنا أنّا قليلٌ وجارنا عزيزٌ وجار الأكثرين ذليلُ مبيّنًا أن ما يجعله وقومه في مكانة عزيزة، يتمثّل في كون جارهم عزيزًا لا ينقصه شيء من أمور الدنيا، وقد تعدّى بعضهم ذلك إلى حفظه بعد الممات، ورعاية ذمته؛ حيث يروى أنّ الأعشى قد أصاب أعطية كبيرة، فمرّ ببني عامر وخشي على ماله، فأتى علقمة بن علاثة، فقال له: أجرني، قال: قد أجرتك من الجنّ والإنس، فقال الأعشى: ومن الموت؟ قال: لا. فأتى عامر بن الطفيل وقال له: أجرني، فقال: قد أجرتك من الجنّ والإنس، فقال الأعشى: ومن الموت؟ قال عامر: ومن الموت أيضًا. قال: وكيف تجيرني من الموت؟ قال: إن متّ في جواري بعثت إلى أهلك الديّة. قال الأعشى: الآن قد علمت أنّك قد أجرتني. والقصّة لا تنتهي هنا، بل إنّ الأعشى قد هجا علقمة بأبيات يذكر فيها إهماله لجيرانه، وأنهم يبتون وقد تخموا من الطعام وجيرانهم جوعى: تبيتون في المشتى مِلاءً بطونكم وجارتكم غرثى يبتنَ خمائصًا فيروى أنّ علقمة كان يبكي حين يذكر هذا البيت، ويقول: قاتل الله الأعشى! أنحن نفعل ذلك بجاراتنا؟ جاء الإسلام مؤكّدًا على حقوق الجار ومعزّزًا لها؛ فربط بين رعاية ذمة الجار والإيمان، فقال الرسول الكريم: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه) أي ظُلمه وغشمه، فهو وعيد لمن يسيء إلى جاره، ولا يشعره بالأمن والأمان، عبر ربط ذلك بعدم الإيمان، والحديث في حقّ الجار ممّا يملأ الأحاديث النبويّة، والأبيات الشعريّة، والقصص المرويّة في كتب التاريخ والتراث. حفظ الجوار خصلة إنسانيّة حافظ العرب عليها، وافتخروا بها، وعدّوها من قيمهم النبيلة، في مقابل من لم يصنها بحقّ مَنْ جاءهم لا يطلبهم إلّا كفاية شرورهم، ولكنّها الثقافة العربيّة العريقة التي نهل أهلها الأصالة والعمق الإنسانيّ من أخلاق صحرائهم ونشأتهم، ومن إيمانهم بتعاليم الإسلام الحضاريّة والإنسانيّة وتمسّكهم بهما.