تشير دلالات الغرس إلى الاستزراع النباتي، ومنه اشتق الاستزراع المجازي المعرفي في نظرية الغرس الثقافي، حيث تُعنى هذه النظرية بما يحققه الإعلام والثقافة من تواصل بين بني البشر؛ لذلك فإن دعائم هذه النظرية ترتكز على معززات تواصلية واجتماعية، وتمتح من مشارب مختلفة، منها: العادات، والميول، والطبائع، والمخزون العلمي، والإرث المعرفي، وتنطلق هذه النظرية من تأثر الناس بما يميلون إليه، على أن يكون ذلك على مدى طويل؛ لكي يتحقق مفهوم الغرس، كالأثر الذي نشهده عند من يقضون معظم أوقاتهم أمام التلفاز ويتأثرون بمحتواه، فيؤدي ذلك إلى رسم تصور معيّن لدى أولاء، إذ تتشكل أمامهم أنماط ثقافية، وربما انسحب الأمر اليوم على الأثر الذي تتركه قنوات التواصل الاجتماعي من التثقيف المتنوع في مجالات عدة. إن الدارسين الذين كانوا يرون في التلفاز أكبر شكل لتطبيق هذه النظرية (ميلر – جاربنر - ستيفن ميراي – وغيرهم) ربما لم يدركوا ما حققته قنوات التواصل الاجتماعي اليوم من تفعيل جديد لهذه النظرية، فالناظر في منصات: (فيس بوك - إكس – انستقرام – واتساب – سناب شات – تيليقرام – يوتيوب – تيكتوك)، وغيرها مما قد سيظهر مستقبلاً، سيدرك بجلاء ملامح هذه النظرية، فلم يعد التلفاز – من وجهة نظري – قادراً على استيعاب الإقبال الجماهيري للميول، والتفضيلات، والإعجابات، والتأثيرات، كما هو الشأن في تلك القنوات المتنوعة، بل إن تلك القنوات فيما بينها صارت تتنافس في ترسيخ هذه النظرية، وذلك من خلال تأثيرها الواسع في الاستجابة للقارئ بشكل عام، ومن هنا نصبح في (نظرية التلقي) أمام نقد استجابة متنوع، وذي تأثير مختلف. إن نظرية الغرس الثقافي التي تشير في أبسط مدلولاتها إلى أن التعرض للتلفزيون يزرع بمهارة مع مرور الوقت مفاهيم المشاهدين للواقع، ستضطر اليوم إلى التماهي مع الواقع الجديد، وتوسيع نطاق القارئ (المشاهد) من وسيلة كانت مؤثرة، إلى أخرى باتت أكثر تأثيراً؛ نظراً لما توفره الوسائل الجديدة من سرعة المعلومة، وتنوع مصادرها، وسهولة الوصول إليها، ومن ثم يصبح التأثير أكثر وأكبر، وبوسعنا استبدال كلمة (التفزيون) ب(وسائل التواصل الاجتماعي) في تعريف (جاربنر): "التلفزيون هو وسيلة للتنشئة الاجتماعية لمعظم الناس في أدوار موحدة وسلوكيات، وتتمثل مهمته في كلمة، التثقيف". ولعلنا ندرك جليّاً كيف تبدو هذه النظرية ذات عروق مختلفة، وثمار متنوعة، بمعنى أننا نراها في أشكال متباينة تكشف عن غرس ثقافي، حيث نلمس تأثير تلك القنوات اليوم واضحاً في الأثر الذي تحققه قنوات التواصل الاجتماعي، كالتثقيف الديني، والتثقيف العلمي، والتثقيف التاريخي، والتثقيف الإعلامي، والتثقيف الأدبي، والتثقيف النقدي، والتثقيف الرياضي، والتثقيف الاقتصادي، والتثقيف السياسي، والتثقيف الصحي، أو الطبي، والتثقيف التكنولوجي، أو التقاني، والتثقيف التربوي، والتثقيف الفلسفي، والتثقيف الفني، والتثقيف اللغوي، ونحوها من أشكال التثقيف التي تنبئ عن غرس ثقافي. ويظل الأمر الأهم في نظرية الغرس الثقافي في قيمة ما تثمره، لا ما تغرسه، فقد يتولد عنها ما يمكن أن يفيد، أو يبني، أو يصقل، أو يطور، أو يضيف جديداً، وقد ينتج عنها ما يكون عكس ذلك، عندئذ تسهم هذه النظرية في الاستناد على أساس خاطئ، أو ضعيف، أو مخالف، أو غير منسجم، أو نحو ذلك مما يجعل ثمرة الغرس غير نافعة.