هذا الشعر العربي القديم بمراحله وأطواره سواء كان شعراً جاهلياً أو إسلامياً، الأموي منه والعباسي وما بعده، كل هذا الشعر جاء عن طريق الرواة والحفّاظ من الأعراب وغيرهم، وكان آنذاك لكل شاعر من شعراء العرب، خاصةً في الجاهلية رواية يحفظ شعره عن ظهر قلب، فليس ثمة تدوين ولا كتابة، فالأمية استمرت في العرب مدة طويلة، خاصةً في البوادي والقرى عكس المدن، حينما انتقلت الخلافة إلى دمشق ثم بغداد وأصبحت الشام والعراق تصدر العلم والعلماء وبقية الأقاليم الإسلامية في المشرق والغرب. إن الشعر العربي لم يدوّن إلاّ في عصر التدوين في القرن الثاني الهجري، عندما بدأت حركة التأليف في الشعر تلقف المهتمون بالشعر الأعراب الرواة، وكتبوا عنهم، مع أن هناك الكثير قد فُقد كما يذكر ذلك العلامة عبدالله بن مسلم بن قتيبة في مقدمته الرائعة النفيسة التي تكتب بماء الذهب لموسوعته (الشعر والشعراء)، يقول رحمه الله: والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام أكثر من أن يحيط به محيط أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو أفنى عمره في التنقيب عنهم واستفرغ جهده في البحث والسؤال، ثم ضرب الإمام ابن قتيبة أمثلة لبعض من ضاع شعرهم من شعراء العرب، وقد سبق أئمة قبل ابن قتيبة في تدوين الشعر مثل المفضل الضبي والأصمعيات لصاحبها عبدالملك الأصمعي، وذكر جملة من الرواة والإخباريين الذين حفظوا لنا الشعر العلامة أبو البركات الأنباري في كتابه الممتع (نزهة الأدباء في طبقات الأدباء)، وكان لهؤلاء الرواة والإخباريين فضل كبير في حفظ هذا التراث العربي الشعري حتى إن أبا بكر الصولي هذا الإمام العالم كان يستضيف أهل البادية من الرواة ويأخذ عنهم ويدوّن، وكانت الأعراب على فطرتهم لا يبخلون برواية الشعر ونشر ما في صدورهم من خزائن شعرية أو قصص وحكايات، وموسوعة (الأغاني) للعلامة علي بن الحسين الأصفهاني مليئة برواية الرواة والإخباريين وأشهرهم حماد الذي يلقب بالراوية لسعة علمه وحفظه لشعر العرب والمعلقات جاءت من روايته. شعر شعبي هذه مقدمة يسيرة عن الشعر العربي، وأنه خدم خدمة ما بعدها خدمة، واحتفاء وعناية، لكن الشعر الشعبي لم يلق تلك العناية مثل الشعر العربي، ولا خُمس ما لقي الشعر العربي؛ بسبب الأمية وعدم التدوين المبكر منذ أن عرف الشعبي أو النبطي في الجزيرة العربية، لهذا ضاع الكثير منه بموت الشعراء والرواة، اللهم كان هناك تدوينات للشعر الشعبي في القرن الماضي الهجري أمثال الصويغ من أهالي حائل الذي دوّن شعر أهالي حائل وشمّر وغيرهم من شعراء البادية والحاضرة، والصويان في مقدمته القيمة في كتابه (ذائقة الشعر النبطي) قد قام بسرد هذه المخطوطات القديمة التي احتفت بالشعر الشعبي، والجدير بالذكر أن بعض المستشرقين قد دونوا جملة من الشعر الشعبي مثل المستشرق سوسن، ومن المتأخرين المعاصرين الرواية عبدالرحمن الربيعي في مخطوطاته الكثيرة، والراوية الشهير محمد بن يحيي في مخطوطته (لباب الأفكار في غرائب الأشعار)، فقد بذلا جهداً يذكر ويشكر في حفظ وتدوين الشعر الشعبي النجدي -رحمهما الله-. حفظ وإتقان وفي هذه السطور نلقي الضوء قليلاً على راوية نابغة، بل هو من جهابذة الرواة وحذاقهم ونوادرهم، لم تخدم روايته ولم تسع إليه وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، مع أنه أدركها كلها، ألا وهو العلامة في الرواية شيخ الرواة وعميدهم عبدالكريم بن عبدالمحسن المكادي الحائلي، الذي وُلد في حائل 1294ه كما يذكر الباحث عبدالله أبا الخيل عبر منصته في "أكس"، وابن راويتنا صالح المكادي، نشأ وتربى شخصيتنا وعاش طفولته وصباه وشبابه وشطراً كبيراً من كهولته في حائل، وحفظ القرآن الكريم حفظاً متقناً، وقد وهبه الله عز وجل الحفظ والضبط والإتقان، في كل ما يريد حفظه، فلديه ذاكرة فولاذية ما دخل فيها لا يمكن أن يزول مهما تقدم العمر، فكان ذا بصيرة بما يروي من الشعر وأخبار الناس والمعارك التي عاصرها، والتي حدثت قبله، وإذا سمع القصيدة لأول مرة حفظها ويستحيل أن ينساها وهذا ليس مبالغة. أناس مهرة وكُتب الأدب تحدثنا عن رواة امتازوا بهذه الصفة أو هذه الموهبة، منهم الإمام الشافعي، وقبله رواة الحديث المتقنون، وأئمة بعد الشافعي كذلك أناس مهرة يحفظون من أول استماع لهذه القصيدة، وقصة المتنبي مشهورة في ذلك حين ذهب إلى أحد الوراقين فأعجبه أحد الكتب كان معروضاً، فأخذ المتنبي الكتاب وأطال النظر فيه فقال له الوراق: "أتراك تحفظ هذا الكتاب في هذه المدة الوجيزة؟"، فقال المتنبي: "إن سردت عليك ما في الكتاب آخذه منك؟"، فقال الوراق: "نعم" مستبعداً أن يحفظه، فسرد عليه المتنبي جل ما في الكتاب أو معظمه، فانبهر الوراق وأسقط في يده فتأبط المتنبي الكتاب، وحماد الراوية يحفظ من كل حرف من حروف الهجاء مائة قصيدة غير الأراجيز، وهذا دليل أنه يحفظ من أول سماعه للقصيدة، ومن طالع تراجم المحدثين الذين يحفظون آلافاً من الأحاديث وجد العجب العجاب، حتى روي عن الإمام أحمد كان يحفظ ما يقارب ألف ألف حديث، يعني مليون حديث، والمقصود بذلك ليس المتون فقط، بل أسانيد الحديث؛ لأن الحديث قد يأتي إلينا من أكثر من سند ومجموع ما يحفظه الإمام متونها وأسانيدها قد بلغ هذا الرقم، فسر ذلك العلامة عبدالرحمن بأن الجوزي في كتابه الذي لم يؤلف مثله (صيد الخاطر) وقد ألف ابن الجوزي وهو الحافظ رسالة بديعة ولطيفة عن الحفّاظ وما حفظوه، وذكر قصة المتنبي وحفظه، فأمة العرب هي أمة الحفظ ولولا الحفظ لما وصلت إلينا هذه العلوم والآداب والأخبار وهذا التراث الضخم الهائل. مصدر ومرجع ومما امتاز به عبدالكريم المكادي -رحمه الله- أنه لازم الشاعر المنطيق العبقري محمد العوني حينما استقر بحائل، فكان كالظل له، فحفظ قصائده منه مباشرة بدون واسطة، فالعوني كان يتردد على حائل، وعاصر الأحداث داخلها، وكان شاهد عيان ومؤرخ لهذه الوقائع، فشخصيتنا لعله عرف العوني واجتمع به في هذه الزيارة، وهو ليس بعيداً من قصر أمير حائل بمعنى من الذين يترددون قصر الإمارة، هذا ما أخبرني به الراوية الكبير رضيمان الشمري، وهو يعرف المكادي معرفة جيدة، وقد زاره في منزله بالرياض، وحدثني رضيمان قائلاً: إنني أنشدته قصيدة العزي في إحدى المعارك، وتمنى المكادي أنه حفظها يقصد لو كان شاباً -هكذا قال الراوية رضيمان-، والمقصود أن شخصيتنا عاش في حائل وأصبح تلميذاً للشاعر العوني، ثم رحل الأخير إلى الرياض، وتوفي 1343ه، لهذا كان عبدالكريم المكادي مصدراً ومرجعاً للشاعر العوني، حتى إنه إذا سئل عن قصيدة من قصائده، قال اسألوا المكادي، وهذه شهادة من الشاعر العبقري محمد العوني وإجازة بالمصطلح العلمي برواية شعره والسماح له بذلك، وأنه ثقة فيما يروي عنه، شخص ذكي وفطن ويعرف تمام المعرفة الرجال ولديه فراسة في الناس، ولهذا اعتمد على المكادي في هذه الناحية الحساسة وهي رواية شعره الذي هو أغلى ما يملك بعد دينه وأخلاقه، ولو لم يكن المكادي أهلاً لرواية شعر العوني لما منحه هذه الثقة. تراث شعبي والشاعر محمد العوني ليس فقط شاعراً، بل هو راوية لقصائد غيره، ويحفظ الكثير من القصص وأخبار المعارك والقبائل، فإذا تحدث في مجالس الأمراء والحكام كان يأخذ بزمام الحديث وناصيته، وهذا ما ذكره المؤرخ الأديب فهد المارك في كتابه عن العوني، طبعاً معنى كلامه، وأضاف في هامش صفحة 74 قائلاً: سمعت من يقول إن نصف الأحداث التاريخية ونصف القصص والقصائد ذات الصلة بالجزيرة العربية وبالأدب الشعبي مات بموت الشاعر فهد الفوية، وعندما سمعت هذه الرواية ومن ثم سمعت أن الفوية لا شيء أمام العوني حينئذ ظننت كم مات في صدر العوني من حوادث.. إلخ، فإذا كان العوني مخزوناً لا ينفد ونهراً لا يجف من التاريخ الروائي والقصيد، فلابد أن عبدالكريم المكادي -رحمه الله- تلقى عنه الكثير من الروايات والتاريخ المحلي، ويحدثني صالح بن عبدالكريم المكادي عن والده أنه لما يدعى في المناسبات الخاصة من بعض وجهاء القوم وهو في مجلسهم أحياناً يطلبون منه قصيدة أبي دباس وجواب ابنه دباس، مع أن القصة والقصيدة ليست من موروث مدينة حائل، بل هي من تراث إقليم سدير وبالذات بلدة العودة، وهذا مما يؤكد أن شخصيتنا ليست روايته مقتصرة على شعر العوني بل هو حاوٍ للكثير من التراث الشعبي، ولعل هذه القصيدة تلقاها من العوني وهي مشهورة ومن عيون الشعر الشعبي، وعلى مقالة العوني حينما يسأله أحد عن قصيدة يقول اسألوا عبدالكريم فهذا يذكرنا بمقالة المتنبي الشهيرة وهي: ابن جني أعرف بشعري مني، فهو راوية المتنبي وعميق بمرامي ومقاصد شعره، وقد شرح ديوان المتنبي، ورثى ابن جني صديقه المتنبي حينما قتل، لكن شخصيتنا لم يرثِ العوني؛ لأنه لا يقرض الشعر وإنما اشتهر بالرواية. راوٍ ثقة وعندما كان الراوية والمؤرخ والأديب فهد المارك يُعد كتابه عن محمد العوني كان يتردد على عبدالكريم المكادي -رحمه الله- في منزله بالرياض؛ لأن شخصيتنا من الرواة الثقات، ومن المختصين بالعوني، وقد أورد المارك اسم المكادي في كتابه الذي طبع أخيراً، وهذا الكتاب من أنفس الدراسات في الأدب الشعبي، بل هو أول دراسة تجمع بين الرواية والدراية لهذا الشعر، حشد فيها المارك القصائد والروايات والأخبار ما تأكد من صحتها واعتمدها في كتابه النفيس، بل هو تحفة من تحف المكتبة الشعبية الذي لو قرأته سوف تعيد قراءته مرة أخرى، ففيه التاريخ والقصة والأدب والشعر والدرس والتحليل النفسي والطرفة، وأعتقد ليس هناك أحد من الدارسين عرف نفسية العوني إلاّ هذا المبدع فهد المارك، مع أنه لم يشاهده وهو معاصره، ولكن حينما تقرأ كتابه عن العوني تشعر أن المارك قد صاحب العوني خطوة بخطوة حتى رحيله من الدنيا، فالمارك دخل في أعماق العوني ووجدانه وأحاسيسه وفكره، وذلك من خلال التتبع والاستقصاء والبحث الدائم والسؤال وقراءة شعره قراءة شاعر وباحث وناقد يدرك مغازي الشعر وما يقرأ بين السطور. سهل منهمر وكان لعبدالكريم المكادي -رحمه الله- ذاكرة حية تتوقد، إذا تحدث في مجلس من المجالس أفاض بحديثه وأسهب وأطنب ذات اليمين وذات الشمال وشرّق وغرّب، لا يمكن أن يروى قصة إلاّ ومعها قصة تدل عليها، وهذا في الغالب، كان سخياً بروايته، فلا يبخل على أحد إذا سأله، وإذا تكلم أصبح كالسهل المنهمر الذي يتدفق بدون توقف، لقد كان آية في الرواية الشعبية ومن علمائها، وصيرفي في الشعر، ويميز بين المنحول من الشعر والصحيح منه، يقول العلامة محمد العبودي: كنت زائراً لمحمد العمري الرواية المعروف في الرياض، وكان في المجلس عبدالكريم المكادي، وعبدالرحمن الربيعي الرواية المشهور، وقرأ الربيعي من أوراق معه قصيدة للعوني والمكادي يسمع، فلما انتهى من القصيدة تحدث المكادي قائلاً: الأبيات الأخيرة من هذه القصيدة ليست للعوني، فأنبهر الربيعي وتعجب.. -انتهى كلامه-. وعندما كنت أزور طيب الخلق سعيد بن مبارك الماجد -وهو من أهالي حائل- وقد عرفني بشخصية المكادي، وكنت من قبل لا أعرفه وحدثني قائلاً: إن أحد وجهاء القبائل كان ضيفاً في قصر الضيافة بالرياض، وكان يسمع بالمكادي، وكلما سأل عن قصيدة أجابوه: ما يعرفها إلاّ المكادي، فلما وصل الرياض استدعى المكادي إلى هذا الوجيه، ودخل المكان المخصص، وسلّم عليه وجلس، وكان هذا الوجيه بجواره مذياع يصغي إليه فلم يغلق المذياع اعتقاداً أن هذا الرجل أحد موظفي الضيافة، فقال له الوجيه من أنت؟ قال أنا المكادي، فقال: تصورت أنك رجل ضخم الجسم والهيئة من كثرة ما أسمع عنك، فأغلق المذياع وصار يسأل المكادي طوال تلك الجلسة، ولعلها أعقبتها جلسات، وسعد بن محمد بن نفيسة في كتابه (اضمامه من التراث) ذكر في مقدمة كتابه أنه اعتمد على عبدالكريم المكادي في ذكر قصائد العوني. ختم القرآن وذكر صالح بن عبدالكريم المكادي أن والده كان يختم القرآن في شهر رمضان 15 مرة، يعني معدل تقريباً كل يومين، ويقول لي: إنه يبدأ بقراءة القرآن منذ طلوع الفجر حتى قبيل الظهر، ثم ينام نومة قصيرة بعدها يصلي الظهر ويواصل قراءة القرآن، ثم ينام قبل صلاة العصر، ثم يصلي العصر ويقرأ حتى صلاة المغرب، وكذلك بالليل يقرأ، كان جل وقته في قراءة القرآن الكريم، وكان يستقبل ضيوفه إذا لم ينشغل بالقرآن في الصباح أو بعد الظهر أو بعد العصر، وكان لا يرد أحداً من الناس سواء من الذين يريدون السؤال عن الشعر الشعبي والتاريخ المحلي، مضيفاً: قام بعض الوجهاء وهو من أصدقاء الوالد بتسجيل مروياته حينما كان هذا الوجيه يزور الرياض على أشرطة على النظام القديم -بكرات- ولعله احتفظ بهذه الأشرطة هذا الوجيه. توفي عبدالكريم المكادي كما يذكر ابنه 1397م، وقد جاوز 100 عام، غفر الله له وأسكنه الفردوس الأعلى، وكان منزله القديم شرق مصلى العيد القديم بحي جبرة بالرياض. المكادي ألمَّ بالعديد من القصص والأخبار والشِّعر الأديب فهد المارك المؤلف فهد المارك اعتمد على المكادي بتوثيق نصوص العوني الشخصية محمد العوني رضيمان الشمري وُلد عبدالكريم المكادي في حائل 1294ه إعداد - صلاح الزامل