في الحياة لا أحد يعرف ماذا يوجد خلف الكواليس، فما يبدو لنا قد يكون قشرة خارجية فقط وتحتها تكمن آلاف الحكايات، فالظاهر غالبًا لا يحكي لنا القصة، ولا يصف الأحداث، فالأسرار والعجائب تكمن في طيات الحكاية، ولكن نحن تأخذنا الصور البرَّاقة التي لا نعلم كيف تكونت، وكيف تآلفت معالمها، وكيف كان طريقها لتكتمل، نصدر الأحكام دون أن نعرف الدوافع، نطلق الآراء المفيدة والضارة دون قاعدة واضحة نتكئ عليها، دون رؤية، دون معرفة، قد نتمنى حياة الآخر بناءً على الصورة الخارجية الجميلة، وقد نسيء لأحدهم بناءً على صورة خارجية أيضًا، تردد أمي دائمًا (اتركوا الناس في حالها ما ندري عن الخافي) وبالفعل أحيانًا يكون الخافي عظيم، والداخل ممتلئ. في أحد الأيام كنت أتناول الغداء في مطعم هادئ برفقة صديقة لي، دخل أحد المسنين وقد بدا جائعًا، كان يرتدي ملابس رثة وملامح مرهقة، سكبت السنوات تعرجاتها بعناية على وجهه، وقف على استحياء بالقرب من إحدى الطاولات الواقعة في مدخل المطعم والتي كانت تجلس عليها فتاتان، وبدأ بالإشارة بهدوء إلى بقايا الطعام الموجودة في أحد أطباقهم، أخذه النادل وأجلسه على أحد المقاعد وقدم له الشاي، ويبدو أن هذا أقصى ما يملكه النادل البسيط، أخذ المسن كأس الشاي وهمَّ بالخروج ولكن نادته إحدى الفتاتين وطلبت منه العودة إلى طاولته، بعدها بمدة بسيطة وصل إليه طبقًا جديدًا من الطعام، وبدأ بتناول الأكل بهدوء، دخلت حينها عائلة وجلست في الطاولة المجاورة لنا، أثارهم منظر المسن الذي يتناول طعامه وحيدًا في مطعم، وبدؤوا بالتهامس علَّق الابن (والله مو هيِّن الشايب ماشاء الله) ليرد والده بحسرة وتذمر من مسؤولياته (هذا اللي عايش حياته لوحده ومستمتع مو أنا، مشاركيني في كل شيء) حينها تيقنت من إجحاف المشهد الأخير لأنه لا ينقل الصورة الحقيقية، العائلة حكمت على الرجل بالرفاهية والاستمتاع ولكن لا أحد يعلم ماهي الأحداث، لم يروا نظراته الجائعة التي تتبعت بواقي الطعام في الأطباق، ولم يشاهدوا النادل الشاب وهو يقدم له الشاي بحرج، الصورة الخارجية لم تشي بالداخل، حتى ثيابه الرثة لم تنصفه، أنهى المسن نصف طعامه، وقام بتغطية المتبقي بمحارم نظيفة وتركه وغادر المكان بهدوء، وكأنه جاء لسد جوعه فقط، لا أعلم كيف وصل إلى هذا الحال ولكن بعد رؤية الموقف كاملًا بدا لي أنه حديث عهدٍ بالفقر والتيه والوحدة، الحياة تبدو أحيانًا كلعبة (التركيب) نجاهد لنجمع أجزاءها لتبدو اللوحة كاملة وجميلة، فيرى الناس بهاءها، ولكن لا يعرف أحد كمية الجهد والتعب اللذين بُذلا لإخراج بعض الصور، خلف الكواليس منهك، وفقدان قطعة من اللوحة يعني اهتزاز الصورة، وسقوط كثير من الأشياء، الخارج لا يكون منصفًا في كل مرة.