فشلت إلى حدود الآن في معرفة العلاقة بين اللوحة المعلقة فوق رأسي واللوحة المعلقة على الحائط المقابل لسريري في الغرفة 113 من فندق زيلس حيث أقيم ضيفاً على مهرجان أصيلة. في اللوحة الأولى يجلس رجال من القرن الماضي في مكان نصف مضاء يستمعون إلى عازف ربابة، ووسط الرجال ترقص جارية غطت وجهها بخمار شفاف... في اللوحة الثانية يتربع رجل من القرن ذاته بلباس خشن وقد أغمض عينيه، ربما لكي لا تفتنه الجارية التي ترقص في الحائط المقابل، واستغرق في تسبيح عميق... اللوحتان ليستا على وفاق، مع أنهما تزينان الغرفة نفسها. الأولى تبدو لاهية، فيما الثانية تبدو زاهدة في كل شيء... ولكن ما علاقة كل هذا بأصيلة؟ عندما نزلت في محطة أصيلة أحسست أن القطار تخلى عني في خلاء ما، وكان علي أن أقف ساعة كاملة بانتظار وسيلة نقل تحملني نحو وسط المدينة. تذكرت قول تشيكيا أوطامسي الذي قال إنه يعود في كل مرة إلى أصيلة لتذوق مذاق السكينة والصبر. وقلت في نفسي أن الصبر تجرعناه أمام المحطة تحت الشمس ويبقى أن نجرب السكينة! ولذلك قفزت فوق عربة يجرها بغل هزيل حانق على العالم بعدما رأيت سياحاً بثياب بيضاء يصنعون الشيء ذاته فرحين من كونهم عادوا إلى القرون الوسطى من دون حاجة لدخول ماكنة الزمن! هذه أول مرة أزور فيها أصيلة، فيما قبل كنت أمر عليها "مرور الكرام" وأقول في نفسي أن هذه المدينة تنحدر من الغرباء مثلها مثل كل المدن التي تتوسد البحر... لكنني اكتشفت كم كنت واهماً. فأصيله في آخر المطاف ليست مدينة ببيوت وأبواب وأزقة فقط، إنها على الأرجح رواق تنام فيه لوحات تشكيلية كثيرة وتتبادل الحديث مثل جارات قديمات! في المساء تتبعت الجلسة الثانية من الندوة التكريمية التي خصصت للشاعر المغربي محمد السرغيني، عراب الستينات التي تأسف عليها تقريبا كل المتدخلين، واصفين إياها بمرحلة التأسيس والتجريب والمغامرة... مع أن خطورة هذه المغامرة لم تذهب بالسرغيني إلى السجن كما حدث مع بعض مجايليه، فهو حسب أحمد المديني كان ينهي محاضراته ويعبر داخل سيارته اليابانية من نوع هوندا مثل البرق نحو مكان لا يعرفه إلا هو... وطبعاً من المستحيل أن يلحق أحد بالبرق، حتى ولو كان المطارد سيارة من نوع أواكس! ابتعاد السرغيني عن المظلات الحزبية التي اقتسمت خريطة الوطن مثل كعكة، جعل كثيرا من مثقفي هذه الأحزاب يحرمونه من الميراث الوهمي الذي قسموه على مريديهم الأوفياء من شعراء وأنصاف شعراء... وفيما كان يرى المديني أن السرغيني نشر منذ بدايات الخمسينات في مجلة الأنيس التطوانية يأبى عبدالمعطي حجازي إلا أن يقحم الشعراء المصريين في الموضوع مشيرا إلى أن السرغيني تأثر بشاعر يقال له عبدالرحمن شكري... وبدا طبيعيا أن يشير حجازي إلى هذا الموضوع نظرا لطغيان هاجس المركزية المشرقية لديه في شكل يزيد عن المطلوب... وحسب النظرية المشرقية في الأدب فإن بزوغ أي نجم أدبي في المغرب لابد أن يكون وراءه "كود بيستون" من الشرق! وظلت ملامح السرغيني ثابتة طوال الجلسة وهو ينصت إلى المتدخلين العشرة يختصرون عروضهم إلى عشر دقائق خوفا من أن يقطع عليهم مدير الندوة سعيد الصليمي الكلمة... لكن حاجبي السرغيني الكثين اهتزا نشوة عندما ذكره صلاح نيازي بحب قديم اسمه بلقيس، وأضاف للمزيد من المعلومات، معلومات السرغيني طبعا، أنها تقطن الآن كندا... وأصر نيازي بعناد العراقيين المعروف أن يختلس دقيقتين من الوقت المحدد لمداخلته. وساد الجلسة جو من الدعابة المرحة التي امتصت ثقل بعض الكلمات النقدية "الرصينة"، وخرج الجميع مقتنعا بأن السرغيني هو كبيرهم الذي علمهم السحر! أصيله ليلا تتحول إلى مدينة أخرى، تستطيع أن تختار بين حضور أمسية للطرب الأندلسي وبين حضور عرض كوميدي لعبدالرؤوف... أما بالنسبة لهواة الليالي الحمراء فهناك سيارة تتجول مطلقة إعلاناً صوتياً عن سهرة مع أحد شباب الراي الصاعدين... الذين لا يحبون الفنون التشكيلية لا يأتون إلى أصيله، وإذا أتوا ستطاردهم الرسوم والجداريات في كل مكان... في المقاهي والمطاعم، في الشوارع والأزقة وفي غرف الفندق حيث ينزلون! في قصر الثقافة يعيش تشكيليون من مختلف الأعمار والدول والحساسيات في شكل جماعي، يرسمون ويأكلون ويتعارفون. في مركز الحسن الثاني للمتلقيات الدولية تستطيع أن تشرب شاياً وأنت محاط بالعديد من اللوحات، وفي مطعم بيبي تنتظرك أطباق شهية من الأسماك... والشاطئ، ألا تفكر بالنزول إلى الشاطئ؟ سأنزل برفقة الشاعر العماني سيف الرحبي، فهو لا يجيد السباحة، وربما يشرب مياها كثيرة! -2- ليس مقهى زريرق الذي تحدث عنه الكاتب المغربي اليهودي الأصل إدمون عمران المالح في كتابه الصادر حديثاً بالفرنسية "المقهى الأزرق" مقهى وسط "أدغال" باريس أو فرانكفورت، بل هو يوجد أمام البحر في مدينة أصيلة. ستصل إليه عندما تخرج من باب المدينة القديمة وتترك على يدك اليسرى محلاً لشواء السمك. وعندما تجلس داخله يكون بمستطاعك أن تشاهد إضافة إلى أطياف المارة، هيكل سفينة قيد البناء تشبه كثيراً الفلك التي بناها سيدنا نوح من أجل أن يجمع زوجين من كل الكائنات استعدادا للنجاة من الطوفان... لكن بحر أصيلة أعصابه باردة. داخل المقهى الأزرق ستتعلم أن تعتبر الحشرات والقطط الأليفة جزءا من الزبائن المياومين الذين يقتسمون المكان بأدب إلى جانب البحارة القدامى والسياح الضائعين الذين تقودهم خطواتهم المتعبة نحو المكان الظليل، يضعون حقائب ظهرهم الثقيلة جانباً ويجدون من يشعل لهم لفافة من تلك اللفافات التي تجعل العالم يبدو أجمل... "الخيالات" اسم غريب بالنسبة لعامل بسيط في المقهى، لكنه في "المقهى الأزرق" اسم يدل على رجل في السبعينات من عمره يرتدي وزرة رثة مرصعة بثقوب كثيرة كأنما تعرض لقصف جوي مكثف هلكت فيه وزرته وحدها! ستبدد الوقت بلا طائل في محاولة التوصل إلى سبب وجيه لهذه التسمية الأقرب إلى حقل الشعر منها إلى سيرة أصحاب المقاهي. وستبدد الوقت أيضاً في محاولة التوصل إلى ملامح عازف العود الذي يبدو في الصورة المعلقة إلى الجدار في باحة المقهى، لأنه لا يشبه منير بشير الذي مر بالمقهى ذات يوم، ولا علاقة له بنصير شمة ولا سعيد الشرايبي... الصباغ الذي طلى الحائط بذلك اللون الأبيض لم يكن ماهرا في الشكل الذي سيجعله يتجنب خلط وجه عازف العود بالحائط، فأتت النتيجة هكذا: عازف مجهول الملامح يعزف تقاسيم غير مسموعة... داخل المقهى الذي تعبق فيه رائحة البن الممزوجة برائحة الشاي ونبتة الكيف، ستثيرك صورة مكبرة لسفينة أخرى تشق بحرا بدا أكثر زرقة من المعتاد، سفينة حربية من القرن الرابع عشر على الأرجح وإلى جانبها صورة شخصية لصاحب المقهى الأصلي الذي عندما انتقل إلى العالم الآخر ترك لإبنه الكراسي الخشبية القليلة والشجيرات الظليلة والطاولات الصغيرة المثقوبة من الوسط بالقدر الذي يسمح بدخول كؤوس القهوة والشاي فيها، كما ترك في عهدته القطط الأليفة التي تأتي وتذهب كما تشاء. القهوة هنا ليست قهوة سوداء للغاية مثل التي من الممكن أن تشربها في أي مقهى آخر... يحمل إليك النادل ربع لتر من سائل أسود في كأس كبير، ويمكنك أن تشربه على امتداد ساعات من دون أن يتسبب ذلك في أية حساسيات مع النادل! عادت بي تلك القهوة إلى سنوات الطفولة البعيدة عندما كنت أراقب جدتي وهي تعد قهوة "دوبوا" فوق تنور في إبريق أصفر، مخلوطة بأعشاب برية مجلوبة من جبال الجنوب العذراء... الرائحة تلك ليست رائحة بن فحسب، إنها رائحة تتسرب من ثقوب في جدران الماضي السميكة وتفتح مسام الذاكرة الضيقة لتعبر الصور والذكريات والآلام. لربما بحثا عن هذا الماضي المقتطع من الزمن يأتي إلى المقهى الأزرق كل أولئك الكتاب والفنانين والفوتوغرافيين والبحارة الذين انتهى بهم مصيرهم فوق اليابسة. حتما لن تجد الجواب عند معاذ الناصري الذي عندما يتعب من مطاردة صوره الفالتة بين أزقة أصيلة يأتي ويحتمي بمقهى زريرق من الشمس تحت ظلال شجيرات التين ودالية العنب التي تكبر بلا حاجة إلى حنان البستاني... إن إدمون عمران المالح يعثر فيها على السكينة والهدوء لأن السياح المتنطعين الذين يحلو لهم ترك سياراتهم أمام المحلات التي ينزلون بها لا يهتدون إلى المقهى الأزرق، أو لا يرتاحون إلى زبائنه كثيرا. وماذا بهم زبائن المقهى الأزرق ؟ لا شيء تماما... أذان العصر يصل بوضوح داخل المقهى ويدغدغ آذان الزبائن إلى درجة أنه يدفعهم إلى ترك سجائرهم وغلايينهم الطويلة والمنقوشة جانبا ثم التوجه إلى المسجد، وبعد الصلاة تنتظرهم أماكنهم وأدخنتهم وقصصهم التي تبدأ لكي لا تنتهي. قبل سنوات كان زريرق يغلي القهوة فوق الفحم ولم يكن جهاز التلفزيون قد تعرض لغزو ألوان الطيف. الآن هناك إلى جانب الثلاجة العجوز ذات الباب السفلي الذي يرفض الانغلاق، قنينة غاز صغيرة يتكفل بتغييرها رجل لا يعمل في المقهى لكنه حاضر بها طوال النهار ويلبي طلبات الخيالات بلا كبير أسئلة. إذا فكر وارث "المقهى الأزرق" الذي أصبح أبيض الآن، في تعويض التلفزيون الملون بآخر مستعمل وبالألوان الطبيعية فقط سيكون قد أخرج إلى الوجود مكاناً توقف التاريخ فيه عند أقدام الستينات وانتهى إلى الأبد، مكان لا يصيب فيه شرب الكثير من القهوة بالأرق ولا الجلوس فيه لساعات طويلة إلى إفلاس النادل...