اشتغلت كثيراً الشعريات المعاصرة والتنظيرات النقدية الحديثة على البحث عن جوانب تشكل عتبات مهمة للشعرية المعاصرة، إذ لم يقف النقد القديم عند هذه العتبات، وبالتالي فإن الحديث عن شعرية أغلفة الكتب باعتبارها الواجهة البصرية للكتاب عموماً، وللدواوين أو المجموعات الشعرية، لم يعد ترفاً، أو حالة تزيينية شكلية، فالغلاف هو واجهة الاستقبال الأولى لفعل التلقي التي تسبق فعل القراءة، تنطوي على فعل ترويجي قد يكون له الدور الأكبر في الترويج للكتاب، سواء على صعيد جذب المتلقي للكتاب، أو إعراضه عنه، عندما تكون المواجهة الأولى بينه وبين الكتاب في معرض للكتاب أو في واجهة العرض في إحدى المكتبات. ولو تأملنا في حقيقة شرائنا للكتاب لوجدنا أن أغلفتها قد تشكّل في لحظة مباشرة أو غير مباشرة سبباً في اقتنائها والإقبال على شرائها، وهنا تكمن القيمة الترويجية للغلاف عندما يتكمن من إغواء القارئ للإقبال عليه، وكم من مرة أغوتنا العناوين فأصبنا بخيبة أمل لأننا لم نجد في المضمون ما أوحى لنا به غلافه، وكم من مرة سعدنا لأن حدسنا لم يخب عندما وجدنا انسجاماً بين غوايات الغلاف وما ينطوي عليه من مضمون، ومن هنا فإن عناية الكتاب والمبدعين ودور النشر بالغلاف بات عنصراً أساسية في الترويج للكتاب، ولم يعد ترفاً، فبات التوجّه للفنانين لإعداده فنّاً مهماً وأساسياً في دور النشر يقتضي بحثاً بين خيارات عدة لاختيار الأنسب، كما بات يقتضي نقاشاً طويلاً في سبيل الوصول إلى هذا الهدف، وكم من قصة يذكرها الكُتّاب تظهر شغفهم في الوصول إلى الغلاف المُعبر عن مرادهم. ربما يكون اختيار الغلاف للكتب الفكرية أو التاريخية أو السياسية أسهل من اختيار غلاف لكتاب أدبي، لا سيما للشعر والرواية والمسرح، مع ملاحظة أن العناية بغلاف الكتب الشعرية هي أشدها صعوبة، إذ إن تصيّد غلاف أيقوني للغة شعرية همها التخفي وعدم الظهور من أصعب المهمات التي تواجه الشاعر في تعامله مع غلافه، سواء أكان هو المُعدُّ لهذا الغلاف أم فنان مختص، أم اقتراح من الدار الناشرة، وهنا تدخل عناصر صراعية عدة في سبيل الحصول على الغلاف المناسب القادر على أن يكون واجهة أولى لدلالة ما تنطوي عليها المجموعة الشعرية، ومن هنا قد تكون الدلالة الغلافية هي لحظة الاشتراك الجماعي الأولى التي يشترك فيها الشاعر مع غيره في إنتاج الدلالة الأولى للمجموعة الشعرية المقدمة للقارئ، ولعلنا في سبيل إدراك ذلك يمكن مقارنة غلاف الكتاب الشعري بأغلفة الكتب السياسية أو التاريخية أو كتب المذكرات، فتكون صورة صاحب المذكرات على الغلاف هي عنصر الجذب الأول للغلاف، فيُكتفى على سبيل المثال بوضع صورة أيقونية لصاحب المذكرات لتكون عنصر الجذب الأول للمتلقي، لا سيما عندما يكون صاحب هذا الغلاف قد أحدث ضجة ما حول اسمه، أو فناناً مشهوراً، عندها يكون التخلي القصدي عن أي غلاف آخر يبعد ذهن المتلقي عن تلك الدلالات، وبالتالي يسهل اختيار أغلفة تلك الكتب، وتنحصر مهمات الناشر في تصيد طريقة تشكيل تلك الصورة في تحقق أعلى تواصلية مع القارئ. لا شك أن إهمال العناية بأغلفة كتبنا التي هي مرايا الداخلية بات نوعاً من قطع الصلة مسبقاً مع القارئ، من هنا فإن التمعن في اختيار الألوان الجاذبة للعين والمريحة لها بات أمراً ملحاً بصرياً وتشكيلياً، كما أنه في كتب الأدب، على سبيل المثال، بات جزءاً رئيساً، عتبة أولى لرصد جماليات الكتب، فهي لحظة ولادة الدلالة الأولى، ولا تغيب عن أذهاننا التنظيرات المهمة التي توقفت عند تلك العتبات، حتى باتت تشكل فلسفة خاصة وجديدة في القراءات النقدية المعاصرة التي أسهم في شق طريقها الناقد الفذ جيرار جينيت، ومن ثم توالت على أيدي نقاد آخرين. لا شك إن الوقوف على الأغلفة الأدبية بات يقدم دلالات بصرية مكثفة للمعنى، كما يمثل اختزالاً دلالياً غير مباشرة للحظة دلالية تريد المجموعة الشعرية أو الرواية تقديمها للقارئ، ومن هنا فإن الاختيار الاعتباطي للغلاف، أو وضع صورة أيقونية غير دالة على تلك الدلالة وغير ضامنة لإثارتها عند المتلقي يمثل خسارات كبرى للمبدع على صعيد التلقي، أو على صعيد التضحية بدلالة تتكامل في تشكيل شعرية المضمون، أو تقدم دلالة بصرية محفزة لفعل القراءة، ومن هنا يمكن القول إن عناية كتابنا بهذه العتبة مازال يعتريه بعض الاستسهال الذي يظهر في أغلفة كثيرة لم ينشغل أصحابها بأغلفة كتبهم، وبالتالي هذه دعوة للعناية بها، فهي بمنزلة واجهة البيت، إنها مرايانا التي ننتظر أن تكون في أبهى حلة. د. طامي الشمراني