تحتلّ الفتوى مكانة وأهمية قصوى في العالم الإسلامي، فهي صمّام أمان للشعوب، وملجؤهم بعد الله في النوازل وكذلك في الحياة العامة على اختلاف أحداثها ووقائعها، وشكّل العقل الفقهي على امتداد تاريخه المرجعية الأهم في دولنا، ومن هنا فإن العلماء الحقيقيين الذين يتصدون للفتوى ينطلقون من مرجعية حقيقية، وينضوون تحت هيئة علمية مختصة تملك من الشرعية والأهلية والمرجعية الرسمية ما يجعلها مؤهلة للفتيا بشكل علمي تراعي المصلحة العامة للبلاد. ومن هنا خطورة أن يتصدى للفتاوى قليلو الحظ من العلم الشرعي، والذين لا ينضوون تحت مظلة رسمية، بل -للأسف- يتبعون لجهات لا ترقب في عباد الله إلّاً ولا ذمّة، ماتت ضمائرها، واستسهلت الإفتاء في أمور عقدية وجهادية، كانت وبالاً على أصحابها وعلى دولهم، وما حوادث الإرهاب في كل دول عالمنا الإسلامي إلا تجسيد للفتاوى المضللة التي أودت بأصحابها إلى الموت الرخيص، وهدر الدماء الزكية التي لا ذنب لها إلا أنها مُنيت بفئات ضالّة مدفوعة بفتاوى من تُجّار الدم، وميّتي الضمير وفاقدي المروءة. في المملكة العربية السعودية –بفضل الله– تُشكّل هيئة كبار العلماء، حائطاً وسدّاً منيعاً ضد فوضى الفتاوى، فقد واصلت منذ تأسيسها على العمل الرصين، وإعمال العقل، وتوظيف النصوص الدينية من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ولذا فهي المظلّة الشرعية والفقهية الرصينة والمرجعية الأهم التي تمثّل منارة علمية وفكرية تحفظ لبلادنا وشؤونها الدينية سلامتها ونقاءها من العبث والاجتهاد الذي لا ينطلق من معرفة عميقة وعلم شرعي عميق يؤهل التصدي لمثل هذه الشؤون الدينية البالغة الحساسية وذات المساس بحياة الناس ودينهم وسلامة معتقدهم. لقد أحسنت هيئة كبار العلماء حين أصدرت فتوى بعدم جواز الحج بدون تصريح، إذ رأت من وجهة شرعية بأن هذا المسلك لا يتسق مع جلال مناسبة الحج، ولا قداسة المكان، في ظل زيادة الطاقة الاستيعابية لأعداد الحجاج والإضرار بصحة الناس ونسكهم الذي تكبدوا من أجله قطع مسافات طويلة، وبذلوا الغالي من أجل تحقيق حجّة العُمْر. ولأنّ عدم الالتزام بالفتوى من قبل قليلي الوعي، والمغرر بهم ممن وسموا أنفسهم بالعلماء، فقد شهد حج هذا العام حالات وفاة تم الإعلان عنها رسمياً من قبل الحكومة، على الرغم من أن النجاح المذهل لجهود حكومتنا كان هو السمة الأبرز، والذي أبهر العالم الذي شاهد حجم الجهد العظيم والإمكانات الضخمة التي وفرتها السعودية لضيوف الرحمن. هذا الحدث يضع مسألة الفتوى والإفتاء من قبل بعض الدعاة المضلّين موضع تأمّل ومساءلة: لمَ يمارس هؤلاء هذا التضليل؟ وكيف يمكن تحصين إخواننا من المسلمين الذين لا يملكون ما يكفي من الوعي والمعرفة ما يجعلهم بمنأى عن مثل هذه الأضاليل والفتن؟ وحتى لا يكونوا فرائس سهلة لفتاوى شاذة غير مسؤولة، فهي لا تنضوي تحت مؤسسة فقهية أو شرعية أو مرجعية دينية لأي دولة، اتّبعت الضلال والهوى واستباحت بفتاواها دماء المسلمين وفقاً لمصالحها الضيقة وأهوائها التي هي أبعد ما تكون عن مصلحة العباد، ووجدت ضالّتها في قليلي الحظ من التعليم والثقافة الدينية والمعرفة. فالفتيا بدون علم مسألة خطيرة للغاية، لا سيما في المجتمعات التي يمكن أن تتأثر بسهولة بالأفكار والمعتقدات الخاطئة، عندما يتحدث أشخاص غير مؤهلين عن أمور الدين أو يُصدرون فتاوى دون معرفة دقيقة أو دراية، حتماً سيؤدي ذلك إلى نتائج مدمرة. عليه، فمن المهم الاستفادة من هذا الحدث، فهو يضع المؤسسات العلمية والإعلامية والمجامع الفقهية في عالمنا الإسلامي أمام مسؤولية تاريخية، وهي ضرورة أن يلعبوا الدور الحقيقي الحاسم في توعية شعوبهم بسماحة الدين، وأن الأعمال الخيرة وأداء الفرائض كالحج والعمرة لا تعني مخالفة مصالح المسلمين، وأن الأجر الحقيقي في طاعة ولي الأمر، وعدم التضييق على بعضهم البعض وفقاً لفتاوى عبثية لا تنم عن وعي أو إدراك لدرء المفاسد وتقديمها على جلب المصالح.