(رصدنا تجاوزات لا يمكن أن نسمح بها، ومن واجبنا الشرعي الوقوف إزاءها بقوة وحزم؛ حفظًا للدين، وهو أعز ما نملك، ورعاية لوحدة الكلمة، وحسمًا لمادة الشر). بهذه الكلمات الواضحة ابتدأت رسالة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود لسماحة مفتي المملكة، واضحة كفلق الصبح، ساطعة كضوء الشمس، شخَّصت الواقع، وأبانت علله، ووصفت الدواء والعلاج. ويؤكد عدد من العلماء والمتابعين أن التوجيه الملكي الكريم الذي صدر في غرة شهر رمضان المعظم بقصر الفتوى في القضايا العامة على هيئة كبار العلماء، وتكليف سماحة مفتي عام المملكة بترشيح أشخاص للإفتاء في المناطق هو قرار تاريخي بمعنى الكلمة، ذلك أنه سيوقف فوضى الإفتاء التي ضربت بأطنابها، وأصبحت مصدر قلق للحادبين على مصلحة الأمة. ولقراءة هذا القرار من جميع جوانبه، استطلعت الرسالة آراء عدد من العلماء والمشايخ واستشرفت توجهاتهم فأفادوا بالتالي: تنظيم للفتوى بداية يؤكد سماحة مفتي عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ أن الأمر الملكي الكريم جاء لتصحيح الأوضاع، ومنع من ليس لديهم علم من الفتيا، أو الخوض فيها، لأن الفتوى إخبار عن الله -عز وجل-، وقال: لذلك يجب ألا يخوض في الفتيا إلا من هو أهل لها، ومن لديه العلم، والواجب على المسلم أن يسأل العالم، إذا كان لا يعلم، يقول الله -عز وجل- “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلًا”. وعن رؤيته المستقبلية قال: إننا نستبشر خيرًا بتوجيه خادم الحرمين الشريفين يحفظه الله، ونحن مسرورون به، متفائلون بأنه سيحقق المطلوب للبلاد والعباد، وبإذن الله سنوفق جميعًا لحل هذه المسألة. وعن قول البعض بأن قصر الفتوى على أناس بعينهم سيغلق الأبواب أو يكمم الأفواه نفى سماحته ذلك، مؤكدًا أن التوجيه الكريم واضح ومحدد وهو منع من لا علم عنده أن يتقول على الله بما لا يعلم. وحول الإجراءات القادمة التي سيتم اتخاذها لتنفيذ هذا التوجيه الملكي بضبط الفتيا، قال: إنه سيتم وضع آليات وإجراءات للتنفيذ، وستكون هذه الآليات مانعة لمن لا علم لديهم بالفتيا. تنافس محموم بدوره أشاد الداعية الإسلامي الدكتور إبراهيم الدّويش بقرار خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في حصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء وقال: هذا قرار حكيم تأخر كثيرًا، فالفتيا أمرها عظيم، فهي توقيع عن رب العالمين، وأعجب من جرأة البعض عليها بهذا الشكل المريع، ولا شك أن وسائل الإعلام لها دور في هذه الجرأة في سباق محموم على برامج الفتيا المباشرة، والذي هو مزلق خطير لا يحذره إلا العقلاء ممن أتاهم الله الحكمة والبصيرة، فتنافس على نجومية الفتيا الفضائية كل أحد ليخوضوا بكل شيء خاص وعام ونوازل ومستجدات مما لو عرضت على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لجمع لها كبار الصحابة، ولا شك أن القرار سيكبح جماح هؤلاء، وأتمنى أن ينتبه الجميع إلى تمييز القرار بين الفتيا الفردية والجماهيرية مما تخص الشأن العام والمستجدات، وهذا حق عام لا يجب أن يخوض فيه فرد بعينه مهما بلغ من العلم، ولولي الأمر أن يضبطه ويقننه حسب المصالح والمفاسد، والذي أخشاه تراخي اللجنة الدائمة في مجاراة مستجدات الواقع وحاجة الناس لسرعة البت فيها قبل أن يخوض الرويبضة فيها، فتنشر وتشهر وتطير بكل مطار، ويفتن الناس فيها دون أن يكون للجنة مبادرة للبت والبيان الذي لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة. ومضى الدويش قائلًا: السؤال المهم: هل سيوقف القرار تلك الأقلام الصحفية التي تتجرأ على مسائل فقهية عامة؟ وهل ستقنع بفتوى اللجنة الدائمة فيها كقيادة المرأة للسيارة أو حدود الحجاب الشرعي للمرأة، وغيرها من القضايا الساخنة في الساحة، أم أنهم سيجلبون الفتاوى من خارج الحدود، وعندها لا أدري كيف سيكون دور القرار هنا ومدى فاعليته، وهذا يقودنا إلى خطورة تفرد أهل البدع والآراء الشاذة ببرامج القنوات الفضائية، وخلوها أو ضعفها من الإرشاد الديني القائم على منهج السلف الصالح فلا أحد ينكر ثقة الشارع الإسلامي عامة بعلماء المملكة ودعاتها، فكل هذه الوقفات تحتاج للمدارسة والنظر ليكون مثل هذا القرار نافذًا فاعلًا، وإلا فإنه سيفتح جدلًا فكريًا لا نهاية له خاصة إذا تجاذبته الأطياف الفكرية كلٌ لمصلحته دون النظر للمصلحة العامة بكل تجرد وإخلاص. واختتم الدّويش حديثه بالتأكيد على أن نجاح القرار مرهون بتعاون الجميع فقال: نجاح هذا القرار مرهون بتعاون الجميع من أجل ديننا العظيم ووطننا الغالي، وهو فرصة لتأكيد مكانة المملكة الدينية عالميًا عندما يتحد رأي علمائها في المستجدات. قرار حكيم ومن جهة أخرى يؤكد القاضي بمجلس القضاء الأعلى الدكتور محمد بن عبدالرحمن المقرن أن القرار جاء في وقت مهم فقال: لا شك أن هذا القرار الحكيم جاء بعد حالات مد وجزر وأخذ ورد وإثارة في الفتاوى ما كانت تنبغي في هذا العصر الذي نحن أحوج ما نكون فيه لاجتماع الكلمة واتحاد الصف واتزان الطرح وعدم الخوض في الفتوى ممن ليس أهلًا لها، إن العلم دين والفتوى مقام لا ينبغي أن يتصدر له كل أحد، بل كان السلف يتدافعون الفتوى وكل منهم يتمنى لو أن أخاه كفاه، وقد حذر الله من القول عليه بغير علم فقال جل شأنه: “ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب”. ومن هنا جاء هذا القرار الحكيم من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله، تنظيمًا للفتوى وتعظيمًا لشأنها، ومحافظة على صف المسلمين وانتظام أمرهم، وعدم الإثارة بالفتاوى العامة والآراء الشاذة، وقطع الطريق على ضعاف النفوس وقليلي البضاعة في العلم، فجزاه الله خير الجزاء، ووفق المسؤولين لمتابعة هذا الأمر والرفع عن المخالفين لمحاسبتهم. الانطلاق نحو العالمية من جانبه يقول معالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: إن أمر خادم الحرمين الشريفين بضبط الفتوى جاء لإصلاح الأمور، خاصة أن وضع الفتوى ودخول من لا علم لهم فيها أمر خطير، وقال: إن هذا التوجيه الأبوي جاء من خادم الحرمين الشريفين كوالٍ يريد إصلاح الأمور، وينم عن متابعة دقيقة منه حفظه الله حتى لما يخطب به الخطباء، وكان توجيهه في رحمة وشفقة، وإعلاء من شأن المؤسسات والجهات الشرعية، لإصلاح الوضع. وأضاف آل الشيخ قائلًا: التشويش الذي حدث في بعض الفتاوى، والقيل والقال، جربنا كل ذلك وما أحدث إلا المشكلات، ومن ثم يجب على الخطباء الطاعة والامتثال لتوجيهات ولي الأمر، لمصلحة الدين والوطن، لأن هذا يحقق المصلحة الدينية. قصر الفتوى على الجهات المختصة والعلماء المخول لهم بالإفتاء ليس جديدًا، بل هذا من القرون الأولى، ففي القرنين الأولين لم يتعدى عدد من أوكل لهم بالفتوى المائة عالم وفقيه، وفي عهد الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله- قصرت الفتوى على أناس بعينهم، ووضعت حدود وضوابط للفتوى. وأضاف: الفتوى ليست فقهًا فقط، إنما هي تنزيل الأحكام على الواقع، وليس كل عالم يفتي، وربط العلم بالواقع يراعي المصالح العليا للأمة، وجمع الكلمة ووحدة الصف، وهذا من قواعد الإسلام. الأمر السامي الكريم أثنى على الجهات الدينية والشرعية، وأكد على أنه لا يجوز لأي شخص أن يدخل على وظيفة هذه الجهات، إلا من يؤذن له، ووضع حدًا لمن يحاولون التعدي على وظيفة الاحتساب، وأكد أن من لديه أي شيء يريد أن يبلغه للجهات الشرعية أو للمسؤولين أن يرفع به، ولكن بشرط السرية، فإذا أعلن ذلك يكون أخل ويكون فيه سوء نية. وأكد آل الشيخ أن الهدف من هذا القرار هو وحدة الفتوى والتوجه، وارتفاع مستوى المسؤولية والفهم والإدراك، وهذا ينقلنا إلى مرحلة جديدة في عالمية الدعوة الإسلامية وعالمية موقف المملكة، وينقل الفتوى من الإطار المحلي إلى العالمية، وأن ينقل علماء المملكة وطلبة العلم بالابتعاد من المحلية إلى العالمية، لأن رسالة المملكة الدعوية عالمية. الإذن للمفتين الفضائيين ويلقي الخبير بمجمع الفقه الإسلامي الدولي بمكة المكرمة، وعضو مجمع علماء الشريعة في بريطانيا الدكتور محمد بن يحيى النجيمي الضوء على جوانب عديدة في تناوله لقضية ضبط وتوحيد الفتوى، وقصرها على الجهات المختصة، ويقول: هناك أكثر من جانب في هذا التوجيه الكريم؛ أولها: تأكيده على حصول أي طالب علم أو داعية أو شرعي سعودي، يظهر في أي قناة فضائية سعودية أو غير سعودية بالحصول على إذن مسبق من سماحة مفتي عام المملكة، بالإفتاء والخروج في البرنامج وممارسة الإفتاء، مؤكدًا أنه بعد الأمر الملكي بضبط الفتوى لا مجال لأي خروج في أي برنامج فضائي للإفتاء بغير إذن. وكذلك أن تلتزم جميع الفضائيات السعودية أو التي لها مكاتب في المملكة بهذا الأمر، وستتم محاسبة من يفتئت على هيئة كبار العلماء أو لجنة الإفتاء. والجانب الأكثر أهمية هو أن هناك فرقًا بين الفتوى العامة المتعلقة بقضايا الأمة والوطن والتي لها تأثير على شرائح المجتمع، وهي التي قصرها التوجيه الملكي على الجهات الشرعية المختصة، وبين الفتاوى الفردية المتعلقة بالعبادات والمعاملات والقضايا الأسرية والاجتماعية، وهي بين المفتي والمستفتي، وهي أمور يقوم بها طلبة العلم والدعاة، شرط ألا تعمم أو تسحب على الآخرين، وألا تتناول قضايا تكفير. واختتم بالقول: هناك لجان متابعة لكل في اختصاصه، فالخطباء والأئمة يتابعون من قبل وزارة الشؤون الإسلامية، وهي التي لها ولاية عليهم، وهي التي تحاسب من يخرج عن الضوابط الشرعية، وأساتذة الجامعات الشرعيين يحاسبون من قبل وزارة التعليم العالي، والمدرسين من قبل وزارة التربية والتعليم، والقضاة الشرعيين ومنهم الخطباء والأئمة يحاسبون من قبل وزارة العدل، والمحتسبة من قبل الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا هو السبب الذي بموجبه تم إرسال صورة من الأمر الملكي إلى كل من وزير الداخلية، ووزير الشؤون الإسلامية، ووزير التعليم العالي، ووزير العدل، ورئيس ديوان المظالم وغيرها من الجهات المختصة. وعن العقوبات التي ستوقع على المخالفين لضبط الفتوى قال النجيمي: إنها عقوبات تعزيرية تتدرج من اللوم والتوجيه إلى السجن والجلد. ------------------------------- قال: إن اضطراب الفتوى عرض العلماء للسخرية الباحسين: هذا التوجيه أصاب كبد الحقيقة ويقضي على الفوضى ومن جانبه يوضح عضو هيئة كبار العلماء الدكتور يعقوب الباحسين أن هذا القرار حقيقة أصاب كبد الحقيقة لظهور كثير من الفتاوى المثيرة للبلبلة والسخرية، وقال: ما كان جدير بهذه الفتاوى أن تظهر، فالتوجيه السامي وضع الأمر في نصابه، وأوقف مثل هذه الفتاوى التي يتصدى لها بعض الأشخاص دون أن ينظروا لما تؤول إليه، فالمفتي ينبغي أي ينظر إلى ما يترتب على فتواه، وإن وجد دليلًا وكان رأيه له حجة، فليس كل ما له حجة يناسب أن يقال أو يذكر، لذلك فإن الناطق الرسمي باسم هيئة كبار العلماء هو في الحقيقة الذي يقضي على مثل الاضطراب والفتوى في مسائل الفتوى. وأكد الباحسين أنه إذا كانت هناك مرجعية للفتوى فعلى الناس أن يرجعوا لها، والأمر السامي لم يغفل القضايا الشخصية، فالذي يصلي وتعرض له مسألة خاصة، أو الإنسان الذي يسأل عن زكاته بإمكانه أن يستفتي من يريده. أما المسائل التي تعد من الأمور العامة ولها تأثير على الناس بشكل عام هذه الأمور التي ينبغي أن تحال إلى جهة محددة تقوم بدراستها والنظر إلى وجوهها المتعددة. ------------------------------ أكد أن فوائد القرار أكبر من أن تحصى آل الشيخ: القرار الملكي يتفق مع أفعال الصحابة ومنهجهم من جانبه أوضح الأستاذ المشارك بالمعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتور هشام آل الشيخ أن قصر الفتوى على أهل العلم والفضل الذين لهم باع طويل في العلم لا شك أن به مصالح كثيرة للإمام والمسلمين، وهذا المنهج الذي سلكه الملك بجعل الفتوى عند الكبار هو منهج شرعي، وكان أبو بكر الصديق يعمل مثل هذا العمل، فإذا همَّ بأمر جمع كبار الصحابة، وكذلك عمر يجمع أصحابه ويستفتيهم في الأمر، هذا ما يتعلق في شأن العامة، أما الفتوى الخاصة الذي قرره البيان وكما أقره الملك فإنه بين المفتي والمستفتي، فهذا من ناحية شرعية هذا القرار. ومضى آل الشيخ بالقول: المصالح المترتبة في هذا القرار كثيرة، أبرزها إرجاع الأمر لأهل العلم، وتوحيد الكلمة والفتوى، وهذا مطلب شرعي، لأن كبير السن الذي خالطته التجارب وعرف الحلال والحرام يعرف مدارك الأحكام، وما يصلح في الفتوى وما لا يصلح، وما ينطوي عليه السؤال وما ينبغي عليه الجواب، بخلاف الصغير في السن الذي ليس له باع طويل فقد تختلط عليه المسألة، ولا يعرف إن كان تصلح لهذا البلد أو ذاك، وكبير السن قد عارك الحياة وعرف الناس، فالفتوى كما هو معلوم تتغير بتغير الزمان والمكان فالذي يقرر أن هذه الفتوى تتغير في هذا الزمن أو ذاك هو العالم المجتهد الذي له باع طويل في هذا الأمر، وأعضاء هيئة كبار العلماء من العلماء الذين اكتسبوا العلم والخبرات ودرسوا وعلموا، وكذلك من سيرشحهم سماحة المفتي للفتوى هم أيضًا ممن يثق في علمهم، وأنهم لن يتسببوا في إشكالات أو تناقضات. وختم آل الشيخ بالقول: إذا طبق هذا القرار جيدًا، وتمت متابعة من يخالفونه، فسوف يجمع الناس على فتوى، وكما قال الرسول: “لا تجتمع أمتي على ضلالة”، فالمقصود من القرار ألا تكون هناك فتوى عامة لعامة الناس تسبب إشكالات، ففي هذه السنة حدثت بعض الفتاوى التي أحدثت بعض الارتباك بين المسلمين. الرسالة