أبي، لطالما كنت لي إلهاماً أقتفي أثره، حين تتبدد أطيافٌ من الإلهام التي اعتادتني واعتدتها وتركض بعيداً كبيتٍ هاربٍ من قصيدةٍ ما، يأتيني وميضك مُسرعاً كبرقٍ خاطف تتسابق خُطاه ليخبرني أنك ها هنا فيذكرني بكرم قلبك النابض عطاءً وحُباً مدرارا. اسمح لي أن أُقرِأك أمامَ ملأٍ من القُراء بيتاً هو أحد أطياف الإلهام المكتوب أردفته بشعورٍ اجتاحني جعلته كلمٌ منطوق كان بقلبي محفوراً محفوظاً والآنَ أمامك بمدادٍ على صحيفة مسكوب.. علهُ بك يليق: «سيدق بابك ذاتَ يومٍ زائرُ ما مرَّ بالبستانِ إلا أزهرا..» قد تركنا البابَ يوماً مُوارباً .. فمن ذا الذي يدقُ ويهربُ؟ بُستاَننا فاق البساتينُ بروعتِه.. أيمُر به فعلاً رغم بهائِه ويُزهرُ؟ قد أزهرَ البستانُ في لحظِ الدُجى، ودامَ حتى بزوغَ الفجرِ والإشراقِ.. رَوحٌ وريحانٌ وجنةُ اللهِ في أرضهِ، لا عجْبَ إذ أن أبي الساقي الحاني. سقاني بِذرةً حتى ارتويتُ بلحظةٍ، فامتدت جذوري حينها بتدفقٍ منسابِ.. فمضيتُ أرتقي للعلياءِ نحو سمائي، بتوجُّهٍ سريعُ الخُطى لجادةِ الإبداعِ.. أصبحتُ وردةً بالكادِ تَرى شوكاً لها لا أسقط البتة في صيفٍ ولا حتى شتاءِ.. ما دُمتُ في ظل العزيزِ الغالي أرتوي.. وأنهل من فيضهِ الوضاحِ وحُبِّهِ المِدرارِ. رعاني وراقبني بعد زرعي مُذ كنتُ بِذرةً.. حتى اكتمالُ نموي بعدَ فترةِ الإنباتِ. تراني آنذاكَ بُرعماً صغيراً لا يعي.. أنه سينضج ويشقُ طَريقهُ كالشتلاتِ. وبين عشيةٍ وضُحاها رأيتُ نفسي زهرةً؛ إذ أنك أُكسجيني وتُربتي وضِيائي.. استثمرتَ بي وكنتُ مشروعُكَ الذي.. ضخيتَ عليهِ بلا تقصيرٍ ولا حسراتِ، واثقاً أن ابنتك سترتقي للأعالي مرةً.. وتُكرر الكرّة لتُثمر في كثيرٍ من الأحيانِ. كبِرتُ يا أبي وفي عينِكَ مازلتُ صغيرةً.. مَن بِتَّ تُناديها شوقي وحُبَّ حياتي. مهما مضى العمرُ بي ستراني طفلةً.. حتى أشيخَ تُدللني وتأخُذني بالأحضانِ. يُزعجك من كدَّر خاطري بكلمة أو نظرةٍ، ويقضُّ مضجعك ما يعتريني من آلامِ. زهرتُكَ يا غالي لم تَعُد كما مضى بُرعماً، فها أنا ذا تارة تراني كاتبة وتارةً أُخرى تُرجمانِ. تعلمتُ منك أن الناسَ كلهم سواسية، إلا بتقوى اللهِ ومخافة عظيم الشانِ.. وأن الخيرَ سيظلُّ في أمة مُحمدٍ.. حتى قيام الساعة وذاك وعدُ إلهي، نبينا المختارُ مبعوثُ الهدى من ربهِ ليُتمم مكارمَ الأخلاقِ. سيدقُ بابكَ يا أبي ذاتَ يومٍ زائرٌ.. يسترعي انتباهه ما يراهُ منكَ ويلحَظُ، فأنتَ نورٌ وحديثُكَ ذا شجونٍ ورونقٍ.. عذبُ الكلامِ فلا عجبَ أن يُزهِرَ البستانُ. في يوم الأب يا غالي مرني شريطُ أمجادك فاستحضرتُ جود إحسانك، يا كم مضيتَ تعينُ محتاجاً تكفكف عنهُ ما مسه، وتصفح عمن تقابل من قليل الذوق والخلقِ. تُحدّث هذا بنظرةِ فأل وتجودُ على ذاكَ بالكرمِ، وتُلبس أفضالاً لكُثرتها أظلُّ حائرةً أيها أبدأ لأختتمَ. معاذَ الله يا أبتي أقولُ غيرَ ما أشعُر وما لستَ بهِ تتَّسمُ، فداكَ الروح يا أغلى من أفديهِ بالبدنِ. أليسَ العرقُ دسّاسا وإن ظهرت بواطنَ منهُ لا عجبُ؟ إذاً فإنك في الملا فخرٌ وفي السرِّ أوصافٌ تخورُ منها قوى كاتب عن السردِ. رفيقٌ أنتَ مُذ صغري.. لأفكاري، لأحلامي، في لحظِ الجدِّ واللعبِ، أتوهُ بأي أوصافك أعبر يا ترى وأمتدحُ. ظللتَ طيلةَ العُمرِ تشاورني وترشدني وتُسعدني، بأحلى ما ضمت الضادِ وأعذبِ ما فيها من الكلمِ. حماكَ الله ودُمتَ لي بستاناً إليهِ ترتمي أغصاني وتمتدُ، جذورها بأوتادٍ مُثبتةٍ وسُقياها ترانيمٌ منكَ إلي وتربيتٌ بأكفٍ لا تعرف سوى الدفءِ.