لأولِّ مرةٍ أجدُ قلمي جافا حافا, أشحذ مدادَه, وأستجدي خطاه ليحاولَ وصفَ رجلٍ أتهيَّبُ فكرةَ الحديثِ عنه؛ كوني لن أوفيه حقه, في يوم السبت الموافق الخامس من شهر ربيع الأول لعام (1436ه) توفي عمي وجد أولادي الحبيب؛ أبو سعود عبد العزيز بن علي بن عبد المحسن الدعفس, كان وقع الخبر مؤلماً كأشد ما يكون الألم والوجع والفراق, زفراتٌ ودمعاتٌ ولهيبٌ لا يطفئُه سوى الاسترجاع؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولله ما أخذ ولله ما أعطى، وكل شيء عنده إلى أجل مسمى, الحمد لله حتى يرضى، وله الحمد إذا رضي، وله الحمد بعد الرضا, لا إله إلا الله العلي العظيم ترطب ألسنتنا وتسقي أفئدتنا؛ وقد كان يرفرف بها - الفقيد - لسانه في حياته وأيام مرضه. إن شئتم حدثتكم عن أبي سعود الرجل! وإن شئتم الأب، أو الصديق، أو الحبيب، أو سموه ما شئتم, كان رجلاً من نوادر الرجال, فريداً في صفته وتعامله وخلقه. قام على تربية أولاده وأحفاده وزواره على حب الصلاة، وربطَهم بها فهي عمود الدين، ظلَّتْ هي هاجسَهُ حتى وفاته, يُوقِظُهم لصلاة الفجر مردداً: الصلاةَ الصلاة الصلاة! فيفزعون إليها - رغمَ تثاقلِهم مسبقاً - حباً وكرامةً ووفاءً، ويأتي غيرَ مرةٍ في مناماتِهم يُوصيهم بالصلاة كما كان ديدَنه من قبل, حديثي أيها الفقيد الغالي عن حرصك على فرض الصلاة بابٌ لا يقفل, وهدير بحر لا يهدأ, فقد كنت متعلقاً تعلقاً فريداً بالصلاة, كانت الصلاة هي غذاؤك ودواؤك وروحك وراحتك وهواؤك. آهٍ يا أيها الغالي النقي.. لست أنسى تحملك مسؤولية تربية الأبناء والأحفاد وحتى الأصهار والأنساب, لا تشتكي ولا تملُّ رغمَ ما تقضيه من وقت في سبيل ذلك. لن تنسى مزرعة (القويرات) - في الزلفي - وزوارها نداءك بالأذان ورفعك الصوت بذكر الله صباح مساء. قد عرفناك في أعلى درجات الورع والبعد عن الشُبه, مَسلكُك حب الفقراء والمساكين ومواساتهم والإحسان إليهم. آه أيها المحسن الكبير.. لقد كان شعارك: ((ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)), كم وكم من الصدقات والقربات وتفريج الكربات عرفنا بعضها في حياتك وبعضها بعد مماتك وكثير منها لا يعلمه إلا الله. في بيتك العامر - بطاعة الله وما يرضيه - كان لك حضور وهيبة وتعظيم، نتسابق حين مقدمك لنقرب لك ما تريد، لم ترفع يدك ولا صوتك للتأديب، غاية ما هناك - إن حِدْنا - أن تنظر إلينا من زاوية إحدى عينيك فنكُفّ! سبحانك ربي. يا لجمال جلساتك الطيبة معنا.. تُلاطفنا وتقص علينا قصص الأولين والآخرين، وتُعبر عن محبتك، وتحتفي بأحفادك المزعجين، وترغبهم بتوفير ما يشتهون وتحسن إليهم بالعطيا والهبات، وتتفقد كل واحد منهم، وتحزن لغياب أحدهم، تتمنى دوماً لو اجتمع كل أبنائك وأحفادك حولك.. إنها قمة سعادتك وراحتك. آهٍ يا عماه.. لتلك الغرفة المسكينة غرفة نومك ومبيتك التي يُسمع أنينها من بعد، تنشد من يُسليها ويعزيها بعدك، تستجدي من يحييها لأنها ماتت معك!.. ستفتقدك لأنك كنت أنت أنيسها، كل ليلة تستأذن منا حدود التاسعة لتنام، فننام متأخرين ولما تنمْ بعدُ؛ تنشغل بالوضوء والنوافل وقراءة القرآن والذكر، تستيقظ قبل الفجر بساعتين أو ثلاث لتناجي ربك وتستغفر ذنبك.. متى تنام؟!! لست أدري! هذا حالك مذ عهدناك، لا يثنيك عنه شغل ولا صارف. يا صاحب القلب الكبير لا نعرف لك عدواً أبداً، كل الناس اجتمعت على محبتك، يشهد بذلك جموع المصلين الغفيرة والمعزين والمشيعين. آهٍ يا عمَّاه.. حلمك يعجب منه الحلم! منك تعلمت أن كل شيء يأتي بالحلم أو التحلم. قدرتك على اختراق قلوبنا وعقولنا بكمال خلقك عجيبة جداً! أسرتنا صغاراً وعلّقتنا بك بذكراك بعد وفاتك. آه يا عمَّاه.. في كل موقف.. وكل بقعة.. وفي ذهن كل واحد منا؛ لك أثر ذهب؛ غير أن ريحَه باق. إن كانت شهادتنا بك مجروحة فها هي جموع المصلين والمشيعين والمعزين والبعيدين والقريبين تشهد لك بالخير والبركة.. ألوفهم المؤلفة تُنبئ عن مكانتك.. وتحكي قصة حياتك، وما زلنا نسمع من قصص القريبين والبعيدين والغرباء معك ما يُضاف لما نعرفه عنك ويزيد إعجابنا بك ويُشعل أيضاً ولَهَنا لقُبلاتٍ نطبعها على جبينك. عمِّي الطاهر طهارة الباطن وطهارة الظاهر! ثمة أرواح سخية وافرة العطاء تمطر من حولها بالحب والسعادة, تلك هي روحك الطاهرة الجميلة التي طالما حملت في أعماقها البياض ونقاء لا يُضاهى, لقد غادرتنا ولكن لم تغادر قلوبنا وأرواحنا. كنا أيام مرضك لا نجرؤ أن ندخل الى غرفة العناية المركزة - حيث أنت موجود - ليس خوفاً من شيء - ولكن لا نقوى أن نراك لا تقوى على شيء وكنت بالأمس القريب شديداً عديداً - تقدم النصح والتوجيه والإرشاد لأبنائك ولأشقائك وأحفادك وكل من عرفك. تحسنت حالتك يا والد الجميع, ففرحنا لذلك وخرجت إلينا وجلست معنا أيام معدودات كانت هي الأيام الأخيرة من جلوسك في بيتك - بيت الجميع -, ليزداد عليك التعب وتنهك قواك الشكوى, فتخرج من البيت إلى المشفى, وتلبث فيها أكثر من ثلاثة وعشرين يوماً, ثم تغادر بعدها هذه الدنيا, في خبر زلزل الأسماع. أصابك البلاء وحاولت التحديَ والصبر على المرض لتصمدَ - احتساباً للأجر عند الله -, ولكن الله يبتليك ليرفع درجتك ويغفر خطيئتك - إن شاء الله -, حتى سلَّمتَ ففارقتها راضياً مرضياً. نعلم بأننا لا نموت بفقدان موت من نحب ولكننا ننكسر كسراً موجعاً, وكم هو مؤلم كسر الروح يا عماه, ففقدان من كان يشاركنا في أدق تفاصيل حياتنا فراغ لن يمتلىء أبداً, فلك في قلوبنا صورة تزهو على كل الصور, نعتذر على كل كلمة شكر قد بخلنا بها عليك, ونعتذر عن كل قبلة لم نقبلها على جبينك الطاهر عرفاناً بجميلك, سنكمل مشوار حياتنا ملتزمين - بإذن الله - بكل ما تحبه منَّا من طاعة الله وما يرضيه. ماذا يسعني أن أقول في رثاء عمي ووالد زوجي؟.. أجدني والله عاجزاً على المضي في الكتابة عنه؛ كونها لم تشفِ غلة! وقد ظللت أياماً مضت أهدهد قلمي أسأله المسيل.. فكانت قطراته تتردد لعظم الخطب وجسامة التقصير.. فو الله إني مقصر في حقك يا عمي، كتابة مقالة ليست شافية.. فالسنون التي قضيناها معك بحاجة لسنين من الكتابة علّنا ننقل شعلة ونبراساً لما تعلمناه منك. لا أنسى وأنا أضع القلم أن أعزي زوجتك الغالية - أم سعود نورة الفايز - تلك المرأة الصابرة الوفية السائرة على إثرك، وأسأل الله أن يمد في عمرها ويرزقها العمل الصالح، كما أعزي نفسي المكلومة وزوجتي وأبناءك، ولا يفوتني أن أعزي كل الأحباب والأصحاب والأنساب والأقرباء الذين يعرفونك عن قرب وكثب. أتمثّل فيك قول الشاعر: لو كنت تُفدى بالنفوس عن الردى لفدتك أنفسنا وما نتأخر لكنَّ تلك طريقة مسلوكة وسجية مكتوبة لا تقهر يا زاهداً عرف الحياة فما هوى في المغريات ولا سباه المظهر نم في جنان الخلد - إن شاء الله - يا ذا التقى وانعم بظل وارف لا يحسر إن عزاءنا في فقدك وموتك موت النبي الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي قالت عائشة فيه، ((فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باباً بينه وبين الناس في آخر عمره، فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر، فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم، رجاء أن يخلفه الله فيهم بالذي رآهم، ثم قال: ((يا أيها الناس أيما أحد من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي)).. رواه ابن ماجه وهو حديث صحيح. اللهم تغمد عبدك أبا سعود عندك برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إننا نشهد بأنه صاحب فضل وبر وإحسان وخير، وأنت تعلم السر وأخفى، وأنت بصير بالعباد، لا نزكي عليك أحداً، أنت حسيبه وحسيبنا وحسيب كل أحد، اللهم ارفع منزلته في أعلى عليين، واخلفه في عقبه في الغابرين، اللهم اجبر مصابنا فيه، وأن تجعلنا وإياه وجميع المسلمين مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جنان الخلد, ولا نقول إلا ما يرضي ربنا.. إنا لله وإنا إليه راجعون.