تعتمد غالبية الجماعات المتطرفة الفكرية والإرهابية منهجية الكيانات السرية في بناء هيكلها وتشكيل كياناتها الداخلية، وطريقة انتقاء قواعدها الجديدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي واختيار قياداتها وتصعيدهم إدارياً لتجنب محاولات اختراقهم، لذلك نجد أنها وضعت ما يعرف ب»التراجع» أي يظهر في وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر قنوات الإعلام بحجة التوبة والتراجع. أي خطوات تأمين التنظيم من الاختراق الأمني وهي طريقة حيل جديدة. غالبية هذه الجماعات (المتطرفة)، تمتلك في ذاتها مجموعة من الأهداف الثابتة (الكبرى)، والأخرى المتغيرة (الصغرى)، والتي تتبدل وفقاً لمراحل الصعود والهبوط التي يشهدها التنظيم، ومن ثم تتغير معها الأدوات والوسائل والآليات التي يتم بها تطبيق الأهداف المرحلية الجديدة. تقع أهداف الجماعة المتغيرة بين ما يعرف ب»فقه التمكين»، وهي الوضعية التي تشهد قوتها وسيطرتها وانتشارها بين الدوائر المجتمعية المتعددة، ومؤسساتها في العمق المجتمعي التي تغافل سهواً أو قصداً، بينما تتمثل الوضعية الثانية في ما يعرف ب»فقه الاستضعاف»، وهي مرحلة تشهد ضعف الجماعة وسقوطها شعبياً، وارتباكها فكرياً، نتيجة تأثرها فعلياً بالعوامل السياسية والاجتماعية المحيطة، والتي تجلت أمام الجميع، وحتى اللحظات الراهنة، ويمر خلالها التنظيم بنوع من تأزم الصراعات الداخلية والخلافات حول الأموال والمناصب والتوجهات. من ضمن الملفات الهامة التي تتغير وفقاً لمراحل الصعود والهبوط داخل الجماعة، عمليات «الاستقطاب والتجنيد» الفكري والتنظيمي، والاستقطاب نوعان، إما «غير مباشر»، ويتم من خلال قسم «الدعوة العامة»، ويشمل مختلف الفئات المجتمعية والعمرية، وتنطلق مساراته عبر الوسائل التقليدية المباشرة، مثل خطباء الجمعة في المساجد، أو مجالس الدروس الدينية التي تَمرّس في إلقائها الدعاة الذين ينتمون فكرياً وتنظيمياً للجماعة، أو من خلال الكتيبات التي يُروّج لها عن طريق دور النشر الإخوانية أو الأحزاب المتطرفة، أو من خلال الخدمات التي تُقدّم للقطاعات الفئوية المهنية المختلفة، أو للطبقات المهمشة والمعدومة. وهذه النوعية من مشاريع العمل الحركي تستهدف التأثير الفكري في هذه القطاعات، ورغم قوتها وتمركزها في الشارع لسنوات طويلة، فشلت جدياً في خلق ما يعرف ب»الحواضن الفكرية» لجماعة الإخوان والجماعة المتطرفة نظراً إلى إشكالية الهيكل التنظيمي، على العكس من التيارات الأخرى التي تغلغلت بقوة من دون إطار تنظيمي وصنعة حواضنها الفكرية. يتمثل النوع الثاني من الاستقطاب في «التجنيد المباشر»، ويعمل على ضم الأفراد إلى الكيان التنظيمي، وتحويلهم إلى أشخاص عاملين في الحقل الجماعات المتطرفة ويستهدف هذا التوجه الحركي، إلى قطاعات الأشبال والمراهقين والشباب، لضمان شبابية الجماعة، ومنحها اللياقة والحركة والاستمرارية، فضلاً عن أن هذه الفئات هي الأسهل على البلورة والتأثير الفكري وفقاً لما يتسق مع أدبيات، ويمثل فيه مشروع «الدعوة الفردية» بمراحله السبع محوراً مهماً في عمليات التجنيد المباشر، وتدور حول عملية الانتقاء والاختيار وطرق التأثير على العاطفة الدينية، وفرضيات العمل الدعوي والعمل الجماعي والعمل التنظيمي، تحقيقاً لإقامة «دولة الخلافة» المزعومة. واعتمدت فيما بعد على «المعسكرات المغلقة»، في عملية التأهيل والتصعيد الفكري والتنظيمي، وفقاً لمدى استجابة العناصر للسمع والطاعة، وولائهم للجماعة ومشروعها، فقسمت درجاتها الداخلية إلى مستوى «محب»، ومستوى «مؤيد»، ومستوى «منتسب»، ومستوى «منتظم»، ومستوى «الأخ العامل». في إطار حالة الانحسار والسقوط التي تشهدها الجماعة على مدار أكثر من 8 سنوات بعد إطلاق مركز اعتدال، وفي ظل التطورات التكنولوجية الحديثة ومنصات «السوشيال ميديا»، التي غيّرت في نمط السلوك الاجتماعي والفكري لدى المجتمعات العربية. لا شك في أن التكنولوجيا الحديثة ساهمت في تعزيز الوعي لدى الفرد في إحداث تغيير جذري في أدوات الاستقطاب ووسائله فلم تعد جماعة الإخوان في حاجة لتجنيد العناصر من داخل المسجد أو المدرسة، أو الجامعة، أو حتى عقد لقاءاتها التنظيمية داخل الغرف المغلقة أو الشقق السكانية أو الرحلات البرية والمعسكرات ليس لعدم جدواها ولكن لتغيير الكثير من الأوضاع التي جعلتها تستثمر «السوشيال ميديا» في عمليات الاستقطاب، وإدارة تنظيمها وتأهيل كوادرها وعناصرها، والتأثير في الرأي العام المحلي والعربي والدولي عبر الإعلام ومنصاتها على وسائل التواصل الاجتماعي. ربما يرى البعض أن الجماعات المتطرفة غارقة ومنكفئة على خلافاتها وصراعاتها الداخلية، لكنها في الحقيقة لم تتوقف عن ممارسة عملية الاستقطاب وتلميع الصورة الذهنية للمجتمع بطرق مختلفة فإذا كانت قد توقفت اضطرارياً عن التجنيد المباشر (التنظيمي)، نظراً إلى رفضها اجتماعيا وصعوبة تحركها في العمق المجتمعي نتيجة الوعي المجتمعي وقوة الأجهزة الأمنية لدينا والحمد الله نجحت بدقة رصدها كمركز اعتدال ومركز التحالف الإسلامي لمحاربة التطرف والإرهاب ومركز محاربة الفكري، فإنها ما زالت تحارب ومستمرة في جهودهم في الكشف عن عمليات ووقائع التجنيد غير المباشر (الفكري) عبر منصات «السوشيال ميديا» تحديداً. وأما عن الجماعات المتطرفة وبدقة نجدها منشغلة بتفعيل «تكتيكات خبيثة» ينشرون في وسائل التواصل الاجتماعي لمحاولة لملمة ما تبقى من كياناتها التنظيمية الفكرية والإرهابية ما يجعل جل اهتمامها منصباً على «لمّ الشمل» وتطبيق «استراتيجية حديثة»، أو ما يطلق عليه «التربية والإرشاد والدعوة السرية» في محاولة لصناعة تكوينات فكرية مضادة للمجتمع لعناصرها، تطرح خلالها العديد من الإشكاليات التي لحقت بها وتفنيد تعثرها على المستوى الإعلامي والسياسي، والاجتماعي والثقافي والتنظيمي تحت مسمى التنظيم الإرهابي الجديد. * كاتب وباحث