تخيل أن أفكارنا ومعلوماتنا ومعارفنا وقناعاتنا والكلمات التي نستخدمها في حديثنا اليومي تتجسد على شكل أوراق مطبوعة ومحفوظة في أدمغتنا، ومن ثم وفي لحظة نقرر أن نمزق هذه الأوراق لتتحول إلى كومة من الورق الممزق لا توجد في أي منها فكرة أو معلومة مكتملة، وهذا قريب مما فعله العالم جاك دريدا في نظريته التفكيكية، والتي قد يلتبس على البعض ويشبهها بنظرية ديكارت في شكه الديكارتي رغم أن الفارق كبير بين الفكرتين، فعلى فرض أن ديكارت تعامل مع الورق نفسه المحفوظ في أدمغتنا، فديكارت لم يدعُ إلى تمزيق هذا الورق بل دعا إلى استدعائه كما هو، ومن ثم مراجعته ورقة ورقة، والتدقيق في صحته وموثوقيته، فما يثبت منه يظل كما هو، وما كان فيه خلل أو خطأ يعدل، وما كان مشكوكاً في صحته شكا قاطعا يمزق، وهنا الفرق بين تفكيكية جاك دريدا وشك ديكارت. ومن هنا يمكن القول إن ثقافة الشك ثقافة بناء وبحث عن يقين أو على الأقل الوصول إلى مرحلة الطمأنينة بينما التفكيكية تدعو إلى إلغاء أي علاقة بين ما يسمى دالاً ومدلولاً، فعلى سبيل المثال كلمة ساحر كلمة دالة على مدلول وهذا المدلول هو شخص يمارس أعمالاً محرمة يقع فاعلها تحت طائلة حكم شرعي، وعند الفصل بينها تظل كلمة ساحر ولكنها لا تدل على الشخص نفسه، وإنما تدل على شخص يقوم بأعمال خفة تعتمد على مهارة معينة على الرغم من أن هناك فرقاً بين الشخصين، فهناك شخص يقوم فعليا بأعمال خفة وسرعة كما نشاهد في كثير من المقاطع المتداولة، وهناك الشخص الآخر الذي يقوم بعمل محرم. ولكن ومع ما تحمله التفكيكية من جانب عبثي فإن لها إيجابيات جعلتها تحظى بالكثير من الانتشار والاهتمام، وهذه الجوانب الإيجابية يمكن أن نتصورها من خلال تطبيق التفكيكية على بعض الممارسات والعادات الاجتماعية التي ربطت بين شيئين بصفة دال ومدلول، فهذه العادات والممارسات بنيت على رصيد معرفي قد يكون متوارثاً مما يجعلنا نتجه من تفكيك اللغة إلى تفكيك المعرفة، فمثلا ربط بعض العادات الاجتماعية بالدين بناء على معرفة جعلت من العادة عبادة، وعند تطبيق مبدأ التفكيكية وتفكيك هذه المعرفة بفصل العادة عن الدين وجعل العادة تشير إلى طريقة محددة ومتوارثة عبر أجيال قد تكون مقبولة دينيا وقد تكون غير مقبولة أو مما تنطبق عليه الأفعال المباحة غير الملزمة شرعا أو قد تكون عادة مناسبة لمجتمع ولكنها لا تناسب مجتمعاً آخر أو زمناً مغايراً. فالتفكيكية ليست شراً مطلقاً وليست خيرا مطلقاً، فهي نظرية لا نشكك في نوايا علمائها، ولكنها اجتهاد بشري يحتمل الخطأ والصواب، ويحتاج أن نتعامل معها وفق مبدأ الشك العلمي الذي تبناه ديكارت.