زرته في منزله لمّا كنت في المرحلة الجامعية بصحبة حمد الراشد -رحمه الله-، فكانت الأولى، كان انطباعي عنه مريحاً جداً، فظاهره يدل على الشدة وأنه شخصية لا تستطيع التحدث معها أو القرب منها، لكن لما تحدث رأيته سهل التعامل ليّن الجانب، وكنت قد رأيته في الرئاسة العامة للإفتاء والدعوة والإرشاد من قبل، وأتابع حلقته في البرنامج الجماهيري ذائع الصيت «نور على الدرب»، فكان يوم الثلاثاء في البرنامج يسأل ويجيب، ثم تُعاد الحلقة الخميس بعد صلاة المغرب. هو الشيخ صالح بن علي بن غصون -رحمه الله- الذي اشتهرت شخصيته من خلال «نور على الدرب»، وظل يواصل بث الفتاوى حتى بعد تقاعده من مجلس القضاء الأعلى، وكانت نبرات صوته في هذا البرنامج مميزة من بين المشايخ، يستفتح جوابه على السؤال بالحمد لله غالباً، وأجوبته ليست طويلة، مختصرة ومركزة وصوت جهوري له رنين، وعندما زرته للمرة الثانية في منزله واقتربت منه، كان لدي انطباع أكثر من تلك الأولى، فهو قمة التواضع، خاصةً مع طلبة العلم، وأنه دمث الأخلاق طيب المعشر، فليس فظاً ولا غليظ الطبع، حليم، يحب النقاش العلمي الهادئ الرصين الهادف، وأذكر أنني سألته عن غُسل الجمعة، هل هو واجب أم مستحب؟، فأجاب أنه مستحب على قول جماهير أهل العلم، ثم أخرج كتاباً في الفقه الحنبلي لعله (مطالب أولى النهى)، وقال: «افتح الصفحة رقم كذا من باب صلاة الجمعة»، قرأت ثم قال: «هذا المذهب الحنبلي، وقول عامة أهل العلم أن غُسل الجمعة ليس بواجب»، وفهمت من كلامه أنه يميل إلى استحباب الغسل. كان منزل الشيخ صالح بن غصون -رحمه الله- مفتوحاً للسائلين وطلبة العلم ولمعارفه، حيث يقع جنوب شارع جرير، وفي الشمال الشرقي من نادي الفروسية سابقاً، وأصبح الممر الذي يقع عليه منزله شارع الشيخ صالح بن غصون، والمسجد الذي يصلي فيه الصلوات الخمس بالقرب منه جنوباً بجوار منزله، ولا يزال هذا المسجد قائماً. فقدان البصر وُلد الشيخ صالح بن غصون -رحمه الله- في الرس عام 1341ه تقريباً كما يذكر هو عن نفسه في اللقاء الذي أجراه معه المذيع والباحث محمد المشوح في برنامجه «موكب الدعوة»، وكما في ترجمته في كتاب (الدر المصون في سيرة الشيخ صالح بن علي بن غصون) للدكتور طارق الخويطر كان مبصراً حين ولادته حتى قبل عام 1354ه، إذ أصاب الناس في تلك السنة وباء في العيون ففقد بصره، وقبلها فقد والده وكان عمره 12 عاماً يعني بالتقريب عام 1353ه، كان هو وحيد والده، فباقي الذرية بنات، ومعلومة فقدان بصره ووالده أخذتها من كلامه في برنامج «موكب الدعوة»، ويقول أيضاً: «إنه سافر إلى الرياض عام 1357ه على سيارة محملة بالخشب، وكانت هناك صعوبة في الركوب على هذه السيارة»، فتخيل هذا الكفيف الصغير الذي لم يصحبه أحد وليس ثمة قائد يقوده ويرافقه، لكن الناس في ذاك الزمان تغلب عليهم المروءة وحب العون للآخرين، خاصةً مثل حالة شخصيتنا، المهم أنه وصل إلى الرياض، فالتقى الشيخ عبدالرحمن بن شعيل -رحمه الله-. صوت جهوري وتحدث الشيخ صالح بن غصون -رحمه الله- عن طلبه للعلم، وذكر أنه درس على الشيخ محمد بن إبراهيم، وسرد برنامج الشيخ اليومي وكان معظمه في التدريس بالمسجد وفي منزله، وأنه لازمه ما يقارب 10 أعوام، وأنه استفاد منه وتعلّم في العقيدة والتوحيد والفقه، ودرس كذلك على أخيه الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم مقدمة النحو الآجرومية والفرائض، وتعلّم أيضاً من الشيخ محمد بن عبداللطيف بعض العلوم الشرعية، ومدة 10 أعوام مع الشيخ محمد بن إبراهيم ليست قصيرة، حيث تفرّغ للعلم بشكل كامل، لا يشغله عنه شاغل، من بعد صلاة الفجر حتى يصلي العشاء وهو إمّا في درس على المشايخ أو مذاكرة مع زملائه ومراجعة حفظ المتون المقرر في الدرس مثل: متن التوحيد أو الواسطية، وعمدة الأحكام وبلوغ المرام من أدلة الأحكام، وزاد المستنقع في الفقه الحنبلي، لكن ابن غصون تخصص في الفقه، واعتنى به طيلة حياته العلمية والقضائية، ومع كثرة السائلين في برنامج «نور على الدرب» وخارجه، أصبح الكتاب لا يفارقه في حله وترحاله، وإذا أشكل عليه شيئاً مما يقرأ أو مما مر عليه في الكتب سأل العلماء الذين هم أكبر منه سناً، وله رسائل في ذلك، تعلق بالمعرفة وأصبح العلم يجري في دمه والبحث والنقاش والمذاكرة لذته وسعادته وأنسه، فابن غصون لم ينشغل بحطام الدنيا لكنه آثر العلم وعالم الكتب والتدريس والإفتاء، وكما قلت إن برنامج «نور على الدرب» كان نافذة كبرى لشخصيتنا لنشر علمه بين العامة الذين اعتادوا صوته الجهوري وألفوا أسلوبه السلس الذي قربه منهم. قاضي سدير وحياة الشيخ صالح بن غصون -رحمه الله- العملية كلها في القضاء، ولم يكن ثمة سلّم قضائي في ذلك الزمن، بل يصدر الأمر من الملك المؤسس -رحمه الله- وترشيح من المفتي، وقصة ذلك أن بعض الأشخاص من حوطة سدير وفدوا على الملك عبدالعزيز في قصر المربع بالرياض، يريدون قاضياً لسدير، وشاهدهم عبدالعزيز المنقور، وهو يعرفهم؛ لأنهم من بلدته، وكان المنقور يعمل في البريد الخاص بالديوان الملكي، ويعرف موظفي الديوان بحكم عمله، فسأل أهالي بلدته حوطة سدير: «ماذا تريدون؟»، فأخبروه بغرضهم، فقال: «هاتوا خطابكم»، ودخل الديوان الملكي فسأل من هو الموظف المسؤول عن القضاة فقالوا: إبراهيم الشايقي، فسلّم الخطاب له، وبدوره سلّم الخطاب للملك المؤسس، وبعدها رشّح المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم شخصيتنا بعدما وصله أمر الملك باختيار قاضي لحوطة سدير، وصدر أمر الملك بتعيين ابن غصون، هذه قصة تعيينه ذكرها عبدالعزيز المنقور في ذكرياته، وأصبحت فيما بعد صداقة بين شخصيتنا وبين المنقور -سردت جوانب من سيرته قبل شهرين تقريباً-، وكان تاريخ تعيين صالح بن غصون 1368ه، وحوطة سدير هي أول بلدة في سدير تستقل بقاضٍ، وكان في السابق القاضي في المجمعة. ينصح ويرشد وذكر الشيخ صالح بن غصون -رحمه الله- أنه تعيّن في حوطة سدير ولم يكن معه كاتب، ولا يوجد مقر للمحكمة، وقال أيضاً: «إن أهالي حوطة سدير تعاونوا معه فكانوا خير عون له، وأصبح فيما بعد يذكرونه بالخير ويتواصلون معه بالزيارة والسؤال». وأوضح عبدالعزيز المنقور أن ابن غصون كان ينصح ويرشد الشباب في تأدية الصلاة، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وله دروس فقهية ووعظية، وقد حصلت له قصص ومواقف في حوطة سدير تدل على مروءته وشهامته، وذلك عندما داهم السيل البلدة، ففتح منزله للناس من أجل أن يأخذوا خشباً يسدوا به السيل، وهذا الموقف النبيل يستذكره أهالي حوطة سدير، وذكر هذا الموقف أيضاً د. طارق الخويطر. شقراء والأحساء وفي عام 1374ه تعيّن الشيخ صالح بن غصون -رحمه الله- في شقراء، وأصبح للقاضي راتب شهري، وكان القضاة من قبل ليس لهم رواتب نقدية، إنما هو التمر والقمح يزودونهم بهما، وكان ابن غصون رجلاً مباركاً أينما حل، حيث فُتح المعهد العلمي بشقراء، وأمره المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم أن يدرّس فيه، وقد درّس العلوم الشرعية، وأذكر من تلاميذه الذين درّسهم العلامة أبو عقيل الظاهري الذي استمرت صلته به، وكان قد شفع له عند ولاة الأمر بمنحه أرضاً سكنية، وكان يبره وينصحه دائماً كما ذكر ذلك في إحدى مقالاته عن شخصيتنا. بعد شقراء تم تعيين الشيخ صالح بن غصون -رحمه الله- رئيساً لمحكمة الأحساء، وإقليم الأحساء كبير وضخم، وزاخر بالسكان، متعدد القرى والهجر، وكان مقر المحكمة مدينة الهفوف، فتعيّن عام 1381ه حتى عام 1390ه، وكان هناك مقر للمحاكم، وفي المحكمة أقسام إدارية وقضاة وكتّاب ضبط وكتّاب عدل ونظام إداري جيد في ذلك الزمن، وأذكر أن القاضي رئيس محكمة الخرج الأديب حمد بن إبراهيم الحقيل -رحمه الله- انتدب من قبل رئيس القضاة سماحة المفتي لإنهاء بعض القضايا في محكمة الأحساء، وكان رئيس المحكمة ابن غصون، وهنا توثقت الصداقة بينهما، وفي إحدى زيارات حمد الحقيل سمعته يتحدث مع صالح بن غصون بالهاتف، والحقيل أكبر سناً منه بقليل. حكمة وتأني وكما قلت إن الشيخ صالح بن غصون -رحمه الله- متواضع ورزين، ورزقه الله الحكمة والتأني في إصدار الحكم القضائي، وحتى في خارج أسوار المحكمة إذا استشير في أي موضوع اجتماعي أو ديني ويحتاج هذا الموضوع إلى دراسة وتقصي، فإنه يتريث حتى يستوعب الأمر استيعاباً كاملاً، ثم يخلص بعد ذلك برأي مدروس، وليس رأي مرتجل، يقول إسماعيل بن سعد العتيق في كتابه (تاريخ من لا ينساه التاريخ): «أحد أعضاء هيئة كبار العلماء واشتغل في التدريس ثم القضاء، وله مشاركة في البرامج الدينية والإذاعة، وله مواقف مشهورة وصولات في مجال إنكار المنكر والأمر بالمعروف وهو فذ في شهرته وصيته ومعرفته بالناس» -انتهى كلامه-. جمع فتاوى وألّف د. طارق الخويطر كتاباً بعنوان (الدر المصون في سيرة الشيخ صالح بن علي بن غصون) تكلم فيه عن حياة ابن غصون ومشواره العلمي والقضائي وأعماله، ولأن المؤلف من تلاميذه الذين لازموه مدة ليست قصيرة، فقد نثر جملة من الفوائد في حياة الشيخ وأخلاقه ومواقفه، خاصةً في الجانب العلمي، واستكتب عدداً من العلماء والمشايخ والقضاة الذين عرفوا شخصيتنا، فتكلموا عنه، وهذا وفاء لشيخه، وبراً بعد الموت، ولأن ابن غصون لم يؤلف فقد كان هذا الكتاب إحياء لذكرى هذا العَلَم والتذكير بمآثره وإبرازها للقراء، وكتاب آخر هو جمع فتاوى شخصيتنا من برنامج «نور على الدرب» وغيرها من المسائل التي بحثها، وهذا من العلم النافع الذي يستمر نفعه بعد الموت، وهنا اقتطف بعض الكلمات والمقالات التي أوردها المؤلف من هذا الكتاب القيم. شهامة وكرم يقول الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز الرشيد -من تلاميذ ابن غصون في القضاء-: «فيه شجاعة وشهامة وكرم، يحب الخير، يستمع لطالب الحاجة فيما يقدر عليه هو والمشفوع، ويبذل في ذلك نفسه وصحته، وأحياناً يبذل ماله لتحقيق مصلحة صاحب الحاجة، وكم من مشكلة عرضت عليه وكم من كبد ناشفة بشفاعته وجهده بلها». وذكر د. عبدالله بن عبدالرحمن بن جبرين بعض ذكريات صالح بن غصون معه وصفاته التي عرفها عنه قائلاً: «كان متوغلاً في علم الأحكام، وحريصاً على كلام الفقهاء، وما إن يسمع بكتاب طبع حديثاً إلاّ ويحرص على اقتنائه، لذلك وجد لديه مكتبة كبيرة تزخر بأمهات الكتب، كان حريصاً ومتابعاً لتحقيق شرح الزركشي الحنبلي على مختصر الخرقي، وكان دائماً يسأل عنه، فلما علم أنه في المطابع اتصل بالمطبعة وأخذ نسخة حرصاً على هذا الشرح النفيس الذي يُعد من شروح الخرقي المشتهرة بعد شرح ابن قدامه المغني، وكان ابن جبرين قد حقق هذا الكتاب ونال به درجة الدكتوراة أقصد شرح الزركشي للخرقي». قضايا المجتمع وتحدث عبدالمحسن بن عبدالله الخيال قائلاً: «كان يحرص على البحث ومعرفة كلام أهل العلم في المسألة أولاً في كتب مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- ثم في أمهات كتب المذهب الحنفي والمالكي والشافعي، وأحياناً يمتد البحث إلى كتب التفسير والحديث في مكتبته العامرة بالكتب القيمة، كان –رحمه الله- محباً لكتب السلف وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وأئمة الدعوة –رحمهم الله-، كان قوياً في موضع القوة، كريماً سخياً مع ضيوفه ومن يقصده، وكان يتمتع بذكاء حاد، وقوة ذاكرة، وسرعة بديهة وفطنة، وكانت له منزلة ومكانة لدى المسؤولين». وذكر عبدالمحسن البنيان في مقالته عن الشيخ صالح بن غصون -رحمه الله- وعن خطبه التي كان يخطب بها يوم الجمعة، قائلاً: «أحدث تجديداً في أسلوب الخطبة، حيث خرج بها عن المألوف السائد من ترديد الخطب المكررة والمحررة، والتي درج عليها الخطباء آنذاك، فكان –رحمه الله- يعالج قضايا المجتمع، ويبحث المشاكل التي تواجه الناس، ويضع الحلول المناسبة لها من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع سلف الأمة، كان يعيش مع الناس في واقعهم ويخاطبهم بما يفهمون، فكان الجامع يكتظ بالمصلين الذين يتوافدون عليه من جوانب مدينة الهفوف، وبعد الفراغ من الصلاة كان بعضهم يستوقفه ليستوضح عن مسألة أو يستفتيه أو يستشيره فكان –رحمه الله- يرد بما يشفى ويكفي». صدق وإخلاص وقال القاضي الشيخ علي الرومي عن الشيخ صالح بن غصون -رحمه الله-: «لقد جمع الكثير من الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة، فقد كان محباً للعلم ومكباً عليه إلى آخر حياته، بل في آخر حياته ازداد اشتغاله به وتفرغه له، وأصبح لا يحب كثيراً من المكالمات الهاتفية التي تضيع الوقت، وكان أولاده -ذكوراً وإناثاً- يتعاقبون القراءة عليه في شتى أنواع العلوم النافعة، وإذا لم يوجد أحد منهم -وذلك نادر- قرأ عليه السائق، بل حتى في أيام مرضه عندما سافر إلى الخارج كان يقرأ عليه وهو في المستشفى، فكان لا يضيع شيئاً من وقته. وتحدث الشيخ غنيم بن مبارك بن غنيم -زميله في مجلس القضاء الأعلى- قائلاً: «عرفته عالماً متواضعاً متسلحاً بجلال العلم وجمال الورع، إذا تكلم نفذ إلى سويداء قلبك وجعلك تصغي إليه، وترك في نفسك أثراً طيباً، وما سبب ذلك إلاّ صدقه وإخلاصه وحبه لقول الحق، كان يقول لي: لا تعتمد على الذاكرة فيما يعرض من أحكام، فقد تخون الذاكرة، وارجع إلى كلام أهل العلم فهو أسلم وأحكم، فيا لها من وصية عظيمة تقي الإنسان من المزالق». وبعد عمر امتد طويلاً قضاه الشيخ صالح بن غصون في طلب العلم ونشره وبثه وفي القضاء ما يقارب 41 عاماً، وبعد تقاعده استمر يواصل نشر المعرفة بين طلاب العلم وبين العامة، وفاضت روحه بتاريخ 17 /12 /1419ه، وصلى عليه من الغد في جامع الراجحي ودفن في مقبرة النسيم، أسكنه الله الفردوس الأعلى وغفر له. رسالة من الشيخ صالح بن غصون إلى الشيخ عبدالعزيز بن باز سُمي الشارع الذي يقع عليه منزله باسم صالح بن غصون حوطة سدير قديماً والتي تعيّن بها ابن غصون قاضياً «الصورة لعبدالعزيز صالح المنقور» المسجد الذي كان يصلي فيه ابن غصون الصلوات الخمس