أيُّ عمقٍ تختزله تلك العبارة وأيُّ شعورٍ تشي به، كل ما أعرفه عنها أنها إشارةٌ إلى مخزونٍ هائل من الحنان ومساحةٌ كبيرة من الحب الذي يتدفق بطريقةٍ دافئة معلنًا عن قلوبٍ نقية، ومواسمَ خضراء، ومعطفٍ ثقيل في ليلةٍ ماطرة، فحين يقول لك أحدهم (بي عنك) أو (بي عن روحك) أو (الله يجعله بروحي) هو يضعك في أعلى مساكن قلبه، هو يأويك ويمنحك الرحمة على نسيجٍ لغويٍّ فاخر، هو يمارس الإيثار الرقيق، هو يقصدها فعليًا، ويعني بها أن أتألم أنا وتتعافى أنت، أن أُصاب وتُشفى، أن أحمل عنك كل هذه الأثقال المؤذية، هو يهدف من خلالها إلى تخفيف الألم وانتزاعه، إلى إبلاغك بأن هناك من يهمه أمرك. حين تتسرب تلك العبارات الدافئة فإنها تبدو كنوتةٍ موسيقية، كحنجرة شاعر، كلحن ساقية، تتدفق بصدق لترمم مواضع الألم، وتمنح القوة وتغرس الصبر، فتتجاوز خشونة الجبال وأزمنة القحط وتتجه نحو ثقوبنا ووسائدنا وتعرجات الليل، أتأمل هذا العمق الذي يفيض من لهجاتنا المحلية، والتي تحمل ثقافتنا البعيدة وموروثنا الأنيق وتُعبِّر عن طُهر الشعور خاصة حين يقولها كبار السن أو حين تبوح بها الأمهات والجدات فتهطل مطرًا وتسكب سيلًا، (بي عنك) جملة بديعة مكثفة قادمة من الجنوب، من قمم الجبال، من سنابل الحنطة، ومدن الضباب، مكتنزة بظلال العرعر وحِزم البعيثران وحقول الريحان، ممتلئة بعبق الود، تلك المعاني العميقة لم تُختزل فقط في العبارة الجنوبية بل لها مترادفات كثيرة وجميلة، ففي مناطقنا المحلية الأخرى نجد أيضًا هذا الإيثار فيُقال مثلًا: (أنا أفداك) و(فيني ولا فيك) و(عساني فداك)، وغيرها من لهجاتنا الحنونة، والتي ترسل الحب لغويًا ليُصلح ما تألم فينا.. فنحن دائمًا نجد في الكلمات اللطيفة مواساةً خفيَّة لكل ما يعبرنا، هي ترمم الظاهر والباطن أيضًا، تُشعرنا بالتوازن لأن هناك من أدرك ألمنا، ووضعنا في أولوياته واعتنى بأوجاعنا ولو لفظيًا، البعض لا يؤمن بقيمة الكلمة وأثرها ويجد أنها مجرد (حكي) رغم وقْعها الإيجابي والسلبي على النفس البشرية والمثبت علميًا، فهي قد تكون دواءً يجبر، وأيضًا قد تكون جمرة تحرق، أعرف أن استقبال الكلام اللطيف لا يحل جميع أوجاعنا ولكنه مخدرٌ آمن يُعيننا على ممارسة الحياة، وعلى الشعور المطمئِن بصلاح الأيام، فالسلام على كل أولئك الذين كانت كلماتهم رتقًا لشقوقنا، أولئك الذين أودعوا بلطفهم الأمل في أرواحنا، السلام على أولئك الذين لم يغرزوا بكلماتهم سهامًا حادة، ولم ينبشوا جروحًا كامنة، فكان مرورهم سيلًا من الضوء، أولئك الذين آوونا وأظلونا وجعلوا من لغتهم حيزًا من الرأفة، السلام حتى على الذين غادرونا بصمت دون أن يثقبوا شيئًا منَّا.