حرمة بلدة قديمة جداً وهي من بلدان إقليم سدير، يقول المؤرخ الشيخ عبدالله بن خميس: «بلد عامر فيه نخيل ومزارع وعمران»، ثم قال: «وربما كانت حرمة هي التي يعنيها ياقوت بقوله: والحريم قرية لبني العنبر باليمامة»، وذكر المؤرخون أنها عُمّرت 770ه، وأن الذي عمّرها إبراهيم بن حسين بن مدلج الوائلي، انتقل من بلد التويم إليها، وكان بها طلول وحصون معطلة بعد بني عائد من بني سعيد، فأعاد بناءها إبراهيم بن مدلج، وغرسها بالنخيل والأشجار وتبعه بنوه وبعض بني عمه، فتكاثروا بها، وبعد استطراد من الشيخ ابن خميس عن ماضي حرمة القديم والأحداث التاريخية التي وقعت فيها أردف قائلاً: «حرمة عنصر عامل في الخير والنماء والتطور، فمنها علماء وأساتذة وموظفون، وهي تسابق مثيلاتها من بلدان المملكة في التطور والنماء» -معجم اليمامة-. وشخصيتنا لهذا الأسبوع من هذه البلدة العريقة ألا وهو عثمان بن عبدالمحسن بن عبدالرحمن التركي -رحمه الله- الذي ولد في حرمة 1255ه تقريباً، وكان جدّه عبدالرحمن بن محمد التركي قد استقر بها آتياً من بلدة جلاجل في القرن الثاني عشر كما يذكر الباحث سليمان عثمان التركي في نبذته عن جدّه الثاني عثمان، والتي زوّدني بها مشكوراً وعليها استمد معلوماتي في هذه السيرة العطرة. وعثمان بن عبدالمحسن التركي أدرك الدولة السعودية الثانية، وعاصر مرحلة حكم الإمام فيصل بن تركي بمرحلتيه الأولى والثانية حتى وفاته 1282ه، والمراحل التي تليها حتى جاء الملك المؤسس عبدالعزيز 1319ه بضم العاصمة الرياض إلى حكمه، وهنا بدأت مرحلة النضال والكفاح لتوحيد هذا الكيان، وفي هذا التاريخ كان عمر شخصيتنا 64 عاماً، فهو قد عاصر أحداثاً كبيرة ما قبل التأسيس في منطقه نجد عموماً وفي منطقة سدير خصوصاً. زراعة وفلاحة ونشأ عثمان بن عبدالمحسن التركي -رحمه الله- وتربى في حرمة في مزرعة الخنيفرية التي استقر بها جده عبدالرحمن، وعندما توفي الجد خلفه في الفلاحة والزراعة أولاده، فالفلاحة والزراعة هي المصدر الأساسي للعيش في ذاك الزمن، حيث التمر والقمح -العيش-، وكان والده عبدالمحسن التركي يعتمد على ابنه عثمان في أعمال الزراعة، وكان هو الكبير سناً بالنسبة لإخوانه إبراهيم وعبدالرحمن، ومن الطبيعي أن يعمل الأبناء مع والدهم في أي عمل سواء كانت فلاحة أو غيرها، يعلمهم أبوهم كل ما يتعلق بهذا العمل، وبالأخص سقي النخيل وتلقيحها إبان الموسم والعناية بالزراعة ومتابعة المواسم الزراعية الفلكية طيلة هذه الأشهر ثم الخراف وبعده الصرام، وحفظها بما يطلق عليه الكنز، ليبقى زاداً في أيام الخريف والشتاء، فالكل يعمل بدون توقف من الفجر حتى مغيب الشمس، وفي الصيف يغتنمون آخر الليل؛ لأن الطقس نوعاً ما لطيف، فيسقون الزرع والنخيل، والحياة كانت كلها شقاء وكدح وتعب، لذلك يتربى الأولاد ثم من بعدهم أجيال تتلو أجيال على هذا البرنامج اليومي الشاق، وبهذا تربى عثمان التركي وترعرع على هذا المنوال، فلا مجال للهو واللعب، بل الجد والاجتهاد، وإذا ما مر دهر ولم تهطل الأمطار في الوسمي أو أيام الشتاء والربيع فالأمر يزداد قسوة، فالمطر هو غذاء الآبار التي هي عماد الفلاح والمزارع وهنا يضعف المحصول السنوي من التمر والقمح. نظام المغارسة وعندما بلغ عثمان بن عبدالمحسن التركي -رحمه الله- مبلغ الرجال تزوج من ابنة عمه، وكوّن أسرة، وبعد ذلك أنجب سليمان وعبدالله ومحمد وعبدالمحسن وبقية الذرية من البنات، وقرر شخصيتنا الماهر الحاذق بالفلاحة أن يكون له مزرعة له ولأسرته فانتقل إلى مزرعة القري على نظام المغارسة، والعمل بها كان سائداً في نجد، وهو عقد بين صاحب الأرض المالك لها وبين من يستثمرها بالزراعة، ويكون الاتفاق بينهما فيما ينتج نصف الإنتاج أو الثلث أو الربع حسب الاتفاق، بنى عثمان التركي منزلاً كبيراً في هذه المزرعة، كان يطلق عليه قديماً القصر، وحينما كان ينقل الخشب لأجل أبواب القصر، من المزرعة الأولى التي عاش وتربى فيها منعه أمير المجمعة، فرحل التركي إلى الأمير محمد بن رشيد وكان مقر إقامته حائل، واشتكى عليه فكتب الأمير برسالة إلى أمير المجمعة المعين من قبل ابن رشيد أن لا يمنعه من نقل الخشب إلى مزرعته، وقال بما هو معنى كلامه أن هذه المزرعة الخنيفرية ليست داخلة في بيت المال، وأنه لا يتعرض للتركي -هذا من كلامه في الورقة-، ومضى شخصيتنا ومعه الورقة وسلمها إلى أمير المجمعة وبهذا تم الأمر وبنى شخصيتنا قصره في القري. استضافة المؤسس ومرت السنوات وأصبحت الرياض والعارض وجنوبي نجد والوشم والمحمل والقصيم وسدير تحت حكم المؤسس الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه-، ويروي الباحث سليمان التركي نقلاً عن والده عثمان وعن جده عبدالمحسن كلاهما سمع منه القصة يقول: إنه في تاريخ 1325ه وبالتحديد شهر ربيع الأول، وبعد أن كان الملك المؤسس قافلاً من إحدى المعارك في أيام التأسيس، وكانت المعركة قرب بلد حرمة ونزل بعد انتصاره بالقرب من البلدة، وأرسل رسولاً إلى أمير حرمة ابن ماضي وصحب أمير حرمة بعض من أعيانها ومنهم عثمان التركي ووفدوا على الملك عبدالعزيز وسلموا عليه وقال لهم الملك: "الجيش عطشان يبي ماء"، فتقدم جده الثاني عثمان ورد قائلاً: عندنا في القري مدى والله يحييكم، ورجع ومعه بعض الرجال ومدوا المدى وكبروه لكي يكفي الجيش وخيولهم وطينوه ورفعوه ليجمع قدراً أكبر من الماء، ودخل الملك عبدالعزيز ومعه بعض رجاله قهوة قصر القري وبعد أن استراحوا وتمت ضيافتهم توجه المؤسس ومعه بعض رجاله إلى خيمة نصبت لهم ومعه حاشيته الخاصة وبقي وهو وحاشيته من ضحى ذلك اليوم في آخر العصر وكان الجيش يرد الماء ويرتوي فأمر المؤسس بالرحيل. ويضيف الباحث سليمان التركي أن هذه القصة رواها المؤرخ عبدالله بن محمد الفاخري وذكرها الباحث علي بن سليمان المهيدب في إحدى مقالاته في مجلة الصلة -العدد 21 ص 44- وهي مما تواترت روايتها مشافهة من الرواة من أهل حرمة والمدن المحيطة بها. غرس النخيل ومن القصص التي رواها كذلك الباحث سليمان التركي عن جده عثمان التركي -رحمه الله- قائلاً: "إنه أراد الزيادة من غرس النخيل في مزرعته، فاعترض عليه أمير المجمعة بحجة أن الزراعة أسرع إنتاجاً من غرس النخيل، ولكن الجد عثمان رحل إلى الرياض وقابل الإمام عبدالرحمن والد الملك المؤسس وقال له شكواه وكتب له الإمام عبدالرحمن ورقة على مغارسة بقية أرض القري وكان ذلك عام 1329ه، وفي 1333ه توفي عثمان بن عبدالمحسن التركي وكان عمره آنذاك 78 عاماً، ولم يعرف عنه إلاّ طيب الخلق وكرم النفس وسخاء اليد، فكانت مزرعته القري مأوى للضيوف والعابرين من السفار يوم أن كان الناس يفرحون بمن يستقبلهم ويطعمهم، فكانت سجيته المطبوع عليها هي بذل الطعام لمن يعرف ومن لا يعرف من أهالي المنطقة وغيرهم وبذلك اشتهر وكانت مزرعته مناخ تعد فيها القهوة وهذا رمز الكرم والجود". كرم لا ينقطع وحينما توفي عثمان بن عبدالمحسن التركي -رحمه الله- حل محله أولاده في استقبال الضيوف والاحتفاء بهم، فلم يتغير شيء، فالابن في الغالب الذي عاش في بيئة تحتفي بالضيف يتأثر بهذه البيئة والإنسان بشر لديه عواطف وأحاسيس ونوازع، فذرية شخصيتنا تربوا على هذه الأجواء التي ترفع من مقام الأضياف وتكرمهم وترى هذا من واجب الواجبات بعد الإيمان بالله عز وجل وفرائض الإسلام، ومن شريعة الإسلام أن إكرام الضيف واجب حسب القدرة والاستطاعة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه"، وهذا أعظم حديث نبوي على مكانة الضيف في الإسلام وأن إكرام الضيف ليس شيئاً هامشياً في الدين الإسلامي، فضلاً أنه من أجلّ مكارم الأخلاق في الجاهلية والإسلام، وتغنى به شعراء ما قبل الإسلام وما بعده حتى يومنا الحاضر، وهنيئاً لمن كان كرمه وجوده وضيافته وقراه لوجه الله تعالى، وليست لغرض المدح والإطراء والسمعة، وهذه مسألة خطيرة، فأول من تسعّر بهم النار ثلاث منهم الذي بذل لأجل الناس ويقال إنه جواد وقد قيل له هذا في الدنيا، كما صح الحديث، وهذا هو معنى الحديث، فليس الأمر بالسهل كما يظنه البعض، هذه كلمات أحببت إيرادها في مسألة الكرم والضيف، اللهم إننا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك بما لا نعلمه". درس وكرم نعود إلى حديثنا عن أبناء عثمان بن عبدالمحسن التركي -رحمه الله- حيث إنه في 1365ه بعد وفاة والدهم ب40 عاماً، وفي كتاب (محمد العلي العبداللطيف نشأته بين الماضي والحاضر) -ص12- يقول: "وفي طريقنا للرياض 1365ه تقريباً، توقفت السيارة فجأة في حرمة، وكان الوقت ممطراً والجو بارداً وخيّم الظلام علينا، ولم يستطع السائق إصلاح السيارة، وما كان من السائق ومعاونه ومستأجر السيارة إلاّ أن طردونا، ويبدو أنهم رغبوا ألاّ نشاركهم طعامهم، وها نحن في بلد نجهل أهله ولا نعرف السؤال، لذا لم يكن أمامنا سوى البحث عن مسجد نأوي إليه، وأخذنا نسير والمطر ينهمر فوق رؤوسنا إلى أن وصلنا إلى مسجد بقي بداخله بعض الأجزاء الجافة بعد أن غمره السيل، وكانت فرصة لنا أن ننام من شدة الإنهاك، وما هي إلاّ لحظات حتى جاء الفرج، يأتي أحد الإخوة يبدو أنه رثى لحالنا، وطلب منا أن نصحبه لمنزله بجانب مزرعته ونخيله، وعرفت فيما بعد أنه من "آل تركي" وتناولنا ما تيسر من الطعام، وبعد ذلك دعانا نفس الشخص لنتناول طعام الغداء معه وشرب القهوة، سبحان الله السائق ومن معه خشوا أن يقلّ طعامهم بينما "آل تركي" لا يتردد في تقديم العشاء والغداء لنا، هذا درس ينبغي لنا أن نتعلمه، فالخير موجود، والكرم موجود، والبخل أيضاً موجود". والجدير بالذكر أن أبناء شخصيتنا هم: سليمان المتوفى عام 1370ه، وعبدالله المتوفى عام 1376ه، ومحمد المتوفى عام 1381ه، وعبدالمحسن المتوفى عام 1389ه، وعبدالمحسن هذا أنجب عثمان والد سليمان الذي كتب النبذة. وفي الختام، نشكر سليمان على تزويدنا بهذه المعلومات عن جده الوجيه عثمان التركي، فرحمة الله عليه وعلى جميع أموات المسلمين. عثمان بن عبدالمحسن التركي توفي 1420ه الباحث سليمان بن عثمان بن عبدالمحسن التركي وثيقة مغارسة أرض القري قصر القري في حرمة عثمان التركي -رحمه الله- نشأ على الفلاحة والزراعة إعداد- صلاح الزامل