بمناسبة إلحاح بعض الإخوة الفضلاء بطلب كتابة ترجمة لوالدي الشيخ أحمد بن سلمان، ترددت كثيراً لعلي أجد من معارفه الكثر من قد كفاني ذلك، إذ ربما أن هناك من يعتبرها مني تزكية ولد لوالده، وسأجدني بين فريقين أحدهما يتهمني بالإفراط والمبالغة في مدحه، والثاني يرميني بالتفريط والتقصير في حقه. ولكني لما تأملت ما كتب عن الشيخ عبدالله العنقري وكبار تلاميذه وملازميه وجدته مهضوم الحق من بينهم فتجاوبت مع الإخوان بتسجيل ما أعرفه عنه من حقائق صفاته التي أعرفها من سيرته الناصعة، وأنه من أكبر تلاميذ الشيخ، وأخص ملازميه، خشية أن يلفها الإهمال في زوايا النسيان، فقد خلف في الكتابة له والقراءة والمطالعة كاتبه الأول الشيخ عبدالله بن عبدالوهاب بن زاحم* الذي قدم مع الشيخ من منطقة الوشم أول ما قدم إلى جلاجل قاضياً لمنطقة سدير ثم عين الشيخ تلميذه بعد مدة عبدالله بن زاحم قاضياً لبلده الداهنة واستكتب الوالد بعده. ومترجمنا هو أحمد بن عبدالعزيز بن إبراهيم بن عبدالعزيز بن حمد بن سلمان، من البدارين، وأمه هيلة بنت عبدالعزيز بن سعيد. كان مقر العائلة جلاجل أحد بلدان سدير، ولا ندري متى حلت به إلا أنه -فيما أقدر- من القرن العاشر فما قبل بناء على ما استنبطناه من وثائق خاصة كشهادات، ووصايا ومبايعات.. ونحوها وكانوا يتعيشون على الفلاحة شأن الأغلبية من سكان منطقة سدير الخصيب، وقد تعرض والده لفاقة شديدة وديون جردته من مغارسة(1) له في جلاجل لاختلال الثمار بسبب غور المياه فيه، فأضطر إلى النزوح إلى روضة سدير، حيث الماء العِد (2) واعتدال الثمار، فجعل الله في تلك الحركة بركة وتبدل الفقر سعة وغنى. ولد صاحبنا في (روضة سدير) والعرف السائد عندهم أن تلد المرأة عند أهلها لا في بيت زوجها إلا أن ولادته قبل أوانه حالت دون ولادته في جلاجل عند أهلها. عام (1315ه) -على كبر من والده- ففرح به وحنا عليه وألحقه في سن مبكرة بمدرسة (كُتّاب) المطوع عبدالله بن عبدالمحسن بن فنتوخ إمام وخطيب جامع روضة سدير ومعلم صبيانها، وكان حافظاً فاضلاً مجيداً للتلاوة، فختم القرآن على يديه، ولما يكمل الثامنة من عمره، ففرح والداه بذلك واحتفلا به، بيد أن فرحة الشيخ الكبير بالنجيب الصغير لم تطل حيث توفي الوالد بعد مدة وجيزة عن خمسة ذكور وتسع إناث بعضهم قُصّر، فاضمحل المال لأنه في صائت (3) وثمار، وليس في ثامت (4) وعقار، وتصدع البيت، وعاد معظم أهله إلى بلدهم الأصلي جلاجل، وفي مقدمة من عاد الأرملة الشابة بابنيها: أحمد وإبراهيم وشقيقاتهما الثلاث، منيرة وموضي والجوهرة فعاشوا أيتاماً في حجر تلك الوالدة المشفقة، وهي إحدى العقائل الفاضلات من آل سعيد في جلاجل، كما أن لهم (الوالد وإخوانه) شرف خؤولة في الدوحة النبوية الشريفة إذ يمتون إليها بجدتهم لأبيهم سارة بنت منصور بن هلال بن مانع الشريف و(يعرفون في جلاجل ب آل هلال). وكانت والدته قوية الشخصية، راجحة العقل بعيدة النظر، فباتت تسهر عليهم، وتولي ابنها الأكبر رعاية خاصة في التربية والتوجيه لطلب العلم، مع كسب المعيشة من أطيب الوجوه، فاشتغل بالفلاحة -على صغر سنه- ليعول الوالدة الحنون وأيتامها ويصونهم عن ذل المسكنة وتلقى الصدقات ولا ضير فالفلاحة مهنة أهله ومهنة سائر بيوتات البلد بل سائر المنطقة وغيرها في نجد وهي أيسر الخيارات بالنسبة له، فلا مال له يتاجر فيه ولا سنه يسمح له بالسفر والابتعاد عن الأسرة القاصرة. ومركزه الاجتماعي يأبى عليه العمل لدى الآخرين، والمثل الشعبي المتداول بينهم يقول: «اسم فلاح ولا اسم كالف (5) إذن هو يرغب في لقب فلاح، ذو المكانة الأرفع. وقد تقدم لنا أن أول من لقنه كتاب الله عز وجل، وعلمه مبادئ القراءة والكتابة المطوع عبدالله بن فنتوخ ولعل الوالدة لما رأت ذكاءه وإجادته قراءة القرآن وحذقه مبادئ الخط على غير العادة في لداته وأترابه (6) تفاءلت بمستقبل زاهر في مجال يكون أهنأ عيشاً وأنبه ذكرا، وأوسع رزقاً من الفلاحة وكدها وهمومها فشجعته على طلب العلم بالقراءة على ابن أخته الشيخ إبراهيم بن محمد بن فايز (7)، وهو يكبره سناً وكان كفيف البصر قد شدا شيئاً من العلوم الدينية والعربية فعذب له المشرب، وصار يقرأ على الشيخ علي بن زيد بن غيلان (8)، وكلاهما من أهل بلداته فلا صعوبة في لقائهما، بل إن الأول بمثابة جليس وخليط له فحبب إليه العلم ورغبه في التزود، فشخَص إلى الرياض سنة 1331، وهي - إذ ذاك تعج بالعلماء فالتحق بحلقة جهبذها وشيخ علمائها: الشيخ عبدالله بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل شيخ، فقرأ عليه مدة وجيزة ذكر أنها اقل من نصف سنة- عاد بعدها أدراجه إلى بلده، وظل على فلاحته التي كان أخوه الأصغر إبراهيم قد شب على الطوق وتحمل جزءاً من أعبائها مما وفر له بعض الوقت للمطالعة والتثقيف الذاتي مع القراءة على شيخيه: إبراهيم بن فايز، وعلي بن زيد والرجوع إليهما فيما يشكل عليه في قراءته الحرة. هذا ولم يعلل لعودته المبكرة من الرياض، لكن الناظر في حالته ووضعه الأسري لا يصعب عليه إدراك ذلك، فقلة ذات اليد، وهم الأسرة -المُرمِلة- التي يسيطر عليه هم رعايتها قائماً وقاعداً، ولم يتعود على البعد عنها، كما أن وجل الوالدة على العائل المغترب حديث السن قد أهمها كثيراً لاسيما وقد انقطعت الأخبار بينهما لبعد الشقة، وصعوبة الوسيلة، وندرة السابلة(9) بين سدير والعارض(10) كل تلك العوامل أوجدت لديه قلقاً نفسياً شغله عن التحصيل وصرفه عن الاستمرار في وجهته -والله أعلم-. وبقي في بلده على الحالة الموصوفة آنفاً إلى عام 1336، حتى التحق بالعلامة الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري(10) وهو قاضي سدير والمجمعة للملك عبدالعزيز فوجد كل منهما في صاحبه طلبته المنشودة إذ هما منهوما علم لا يشبعان فالتليمذ تائق إلى التحيل والاستفادة والشيخ طامح إلى استخراج كنوز الكتب والترقي في سلم المعارف وتسنم ذراها فأحبه بل حظي عنده كما قال واتخذه قارئاً وكاتباً وأميناً على سره فقرأ عليه في العقيدة والفقه والفرائض والنحو مع الإمرار عليه في المطولات والشروح والمطالعة والبحث حسبما تقتضيه حاجة القاضي في الأحكام والفتاوى وخلافها وحضور مجالس قضائه وحِلق تدريسه مع اهتبال فرصة للقراءة على الشيخ حمد المزيد والشيخ محمد الخيال وهما من كبار تلاميذ الشيخ العنقري في المجمعة وقد برع في معرفة خطوط قضاة المنطقة السابقين وكتّابها وخطوط أئمة القرى وخطباء مساجدها وكشف أي تزوير في الوثقية مهما دق وفي الجملة فقد لازم الشيخ العنقري قرابة سبع سنوات ملازمة تامة لا يفارقه فيها لا عند النوم أو فيما لا بد منه من شؤونه الخاصة جداً حتى أدرك علمياً وتأهل للعمل بجدارة. فلما آنس شيخه منه ذلك ألزمه بإمامة مسجد جامع جلاجل وخطابته وأضافه -كما قال- إلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك في عام 1342ه من اثنتين وأربعين وثلاثمائة وألف ولم تقطع الوظيفة الصلة الوطيدة بينه وبين شيخه بل والده -كما يسميه- وكان ويستقدمه إلى المجمعة عند اللزوم إذا كان فيها وخصوصاً عندما يستنفر الشيخ من حوله من لاطلبة والكتبة لنسخ كتاب ومقابلته وتصحيحه وذلك كثير؛ فشغف الشيخ العنقري بالكتاب واقتنائه بأي ثمن واستنساخ ما لم يتمكن من شرائه مهما تعددت أجزاؤه معلوم عند من له أدنى معرفة به كما كان يستصحبه في أسفاره ومهماته فهو يأنس به ويطمئن إليه والتلميذ مبالغ في إكرام شيخه منقطع في خدمته مقيم على ولائه له حتى بعد كِبَر الشيخ واعتزاله وتغير الأحوال وهنا محك الرجال وابتلاء مواقف الأصحاب واستمر على قضاء حاجاته والإشراف على أملاكه في جلاجل له ولأولاده من بعده. عنايته بالكتاب واقتنائه لعل عدوى حب الكتاب والتعلق به سرت إليه من شيخه، فقد كان شغوفاً بالكتاب محباً لاقتنائه ويولي المخطوط عناية خاصة. ويحرص على اقتنائه على شح في الحصول عليه. فقد احتوت مكتبته على عدد من المخطوطات منها بخطه ومنها بخط غيره من أهمها مخطوط مقامات(11) الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ التي طبعت من قبل أحد الباحثين، دون علم من ورثته رحمه الله ودون مراعاة حقوقهم وهي بخط المُترجم له، وقد بلغ ما وجد من هذه المخطوطات في مكتبته زهاء الثمانين مخطوطاً ما بين مكتمل وناقص ومنها عدد بخطه وفي بعضها قدم في التاريخ 1078ه، 1093ه، 1189ه ومنها ما نسخه في آخر حياته وقدرته على الكتابة عام 1399ه. كما كان سريع الإلمام بجل ما في الكتاب من فوائد ونوادر في مطالعة عاجلة، وربما سجل بعض الفوائد على ضوء تلك المطالعة في أوراق وسماها بالبسيتينات. (تصغير بساتين). إخلاصه في العمل وتقديره للمسؤولية علمنا أن الشيخ عينه إماماً خطيباً محتسباً في بلده، فماذا يعني هذان المنصبان في الماضي؟ أنهما يعنيان القيام بجميع شؤون البلد الدينية والاجتماعية: من إمامة الفروض وخطب الجمعة والأعياد والاستسقاء وصلواتها، وتعليم الناس أمور دينهم وتولي عقود الأنكحة والطلاق، وكتابة الرسائل وعقود المبايعات والمغارسات، والفتوى وقسمة التركات، والإصلاح بين المخاصمين ونجاحه فيه مشهود لعدالته ووضوح رأيه وحبهم له وغير ذلك من نشاطات الناس اليومية، يضاف إلى ذلك أعباء الحسبة ومهماتها الكثيرة الشاقة وما تفتقر إليه من صبر وأناة وبصيرة بما يُنمى من أحوال المخالفين للتثبت مما ينقل غليه غَيرة وتديناً أو نميمة وتشفياً بحسب الناقل وإدراكه وثقته من عدمها ومعرفة موجبات الحدود والتعزيرات ودرجاتها، ومعالجة كل قضية بما يناسبها من الحكمة والأسلوب المجدي الذي يحقق المصلحة بدون تشهير إلا فيما يستوجب الحدود من القضايا وهي نادرة بحمد الله. كما أن مهمات المحتسب إذ ذاك الإشراف على المكاييل والموازين، وسائر المرافق العامة التي تدخل ضمن مسؤوليات البلديات الآن، وكانت آنذاك الحسبة حسبة صرفة فلا رواتب ولا مكافآت ومرجعها القاضي عند اللزوم والىن أوجد لها ميزانيات وجهات تقوم عليها بعد أن افاء الله على الدولة من فضله وكثر الناس وتنوعت المخالفات..! فقام بهذه الواجبات نحواً من ستين سنة على أكمل وجه من الإخلاص والأمانة والمواظبة التامة ولم يخل بواجبه في الإمامة حتى بعد أن سكن في حي الشعيبة خارج البلدة القديمة وصار يفصله عن المسجد نحو كيل أغلبه فضاء محفوف بالمخاطر والوحشة وخصوصاً في الليالي المظلمة ومواسم البرد القارس، والسيول الجارفة التي تعترض طريقه الترابي غير المؤمن بمعالم تقي الهلكة، وقد كاد أن يقع لولا لطف الله به فيقطع هذا الطريق صابراً محتسباً عدة مرات في اليوم والليلة جيئة وذهاباً لا حرمه الله ثواب خطواته. ولما ثَقُل كان يذهب قبل الظهر ولا يرجع إلا بعد العشاء حيث كان يبقى في بيت الهيئة لقضاء حوائج الناس والراحة. شدة ورعه عندما رشح للقضاء ورفضه توليه كان شيخه العنقري مدركاً لنفسيته فلم يعرض عليه القضاء وكذلك من جاء بعده من القضاة يودون الاستفادة منه في مجال القضاء غير أنهم عندما يعرفون عزوفه عنه وما يقوم به في بلده من أعمال كثيرة ومهمة يتركونه وشأنه وفي وقت اشتدت فيه حاجة الدولة إلى قضاة رشحه أحدهم لقضاء بلدة تيماء فَرحِل من قبل أمير الكافة في المجمعة بأمر الملك سعود رحمه الله إلى الرياض لمواصلة السير إلى محل العمل الجديد فأصابه هم وكرب شديد نغص عليه حياته لا عن عجز ولكن ورعاً وتقوى وتبعه جماعته ملحين بطلب عودته إليهم. ولما وصل إلى الرياض شرح ظروفه للشيخ محمد بن إبراهيم -وكان يعرفه جيداً- وقابله الجماعة كذلك ورفعوا أمرهم للملك فتفهم مشكوراً وضعه ومدى حاجتهم إليه فعفا عنه ورده إلى بلده معززاً مكرماً قرير العين جزاه الله خير وعفا عنه. تمتعه بالثقة والعدالة والأمانة كان معروفاً بالأمانة على الأعراض والأسرار والأموال مشهوراً بالثقة والعدالة ليس في المنطقة وحدها أو لدى من يعرفه معرفة شخصية فقط، بل تعدى ذلك إلى أماكن عديدة، وخلق كثير ممن تبلغهم سمعته وأخباره(12) وكان القضاة في سدير -بعد العنقري- يُجلونه ويستحضرونه في مجالس قضائهم، ويُعوّلون عليه -أول ما يقدمون- في معرفة خطوط كتاب العقود والشهادات والوثائق القديمة، وفي معرفة أحوال الناس والأعراف السائدة في المنطقة. صفاته الشخصية: (صفاته وأخلاقه) كان لبيباً متواضعاً، عف اللسان جمّ الأدب، ذا سمت ووقار وهيبة في دماثة خلق وطيب معشر، ومن صفاته المميزة: الوجاهة والكرم والشجاعة، وجمع المعاني تحت اللفظ الوجيز في دقة تمنع الاحتمالات في كتاباته في حدود واجباته وكذا في مخاطباته. وكان منصفًا مع القريب والبعيد، والخاص والعام، والمحب والكاشح، باذلاً نفسه لقضاء حاجاتهم في أي وقت من ليل أو نهار، من غير تحيز ولا تذمر، كما كان حليماً يقابل الإساءة بالإحسان، والجهل بالعفو والصفح الجميل، وصولاً للرحم، لطيفاً بالمساكين، براً بالأصحاب وفياً.. يعرف لعزيز قوم ذل مكانته، ولغني قوم افتقر حقه، فكم له من يد -خفيه- أنقذت أحد هؤلاء من موقف حرج سيعرضه لمقام ذلة وشماتة، كذلك لم تخل حياته من كفالة أيتام وعياله أرامل من ذوي قرباه، وله سهم وافر في إطعام الطعام، وسد خلة المعتر والطارق من الجيران. ولم تكن تلك الصنائع التي أكرمه الله بها عن وفرة مال في يده. لكنه الطبع الكريم، والمروءة الحقة، والثقة بموعود الله، ومنة الله عليه بجاه عريض يدرك به ما لا يدرك كثير من أهل الدثور(13). أسلوب في التربية كان ذا أسلوب متطور في التربية والتعامل يتناسب مع الواقع فكان حازماً بعض الحزم في أول أمره في التربية حسب ما هو معروف في وقته رفيقاً سهلاً في آخر حياته من غير تفريط حيث إنه قد عاصر رحمه الله جيلين من أولاده جيل الأبناء وجيل الأحفاد والأسباط متخذاً في ذلك ما يتناسب مع كل جيل مع المحافظة على الأساسيات والأحوال الأخلاقية، كأنما يطبق القول المأثور (لا تكرهوا أبنائكم على عاداتكم فإنهم خلقوا لجيل غير جيلكم). وكما هو على ذلك أنه لا يمنع أحفاده (أولادي) من مشاركة أترابهم في لعب الرياضة والمشاركة في نادي البلدة في حين كان ينكر على ولده لعبة الصقلة (14) والنبذة. حياته الخاصة مما تميز به مترجمنا أنه صاحب ديانة وصلاح منذ نشأته وفي جميع أطوار حياته، فكان يقوم من آخر الليل فيصلي ما شاء الله له يختمها بوتر، فإذا أذن مؤذن الجامع -وهو المعتمد- قام فصلى ركعتي الفجر في بيته ومشى إلى المسجد فتقام الصلاة مباشرة، بعدها يبقى في المسجد ريثما يقرأ ورده، حتى إذا أسفر خرج لشؤونه الخاصة ولوازم بيته وغالباً ما تكون في النخيل -وكان شمّالاً(15) ماهراً، وصعّاد نخل بالكر(16) حاذقاً في خاصة نفسه وحاجته -فإذا أضحى رجع وتغدى ما تيسر، ثم أقبل على ما لديه من عمل فأحضر محبرته وقلمه لكتابة رسالة أفهمه صاحبها فحواها، أو نسخ وثيقة لموجب.. أو البحث عن أخرى سئل عنها ثم أقبل على المطالعة.. وإذا كان الكتاب جديداً فما أسرع ما يلم بما فيه من لطائف وطرائف وما عليه من ملاحظات أو أخطاءه، فإذا صلى الظهر استقبل الناس في البيت حيث القهوة والتمر، وفي يوم الجمعة لا يبرح هذا المجلس إلا قبل العصر بقليل والناس من أهل النخيل خاصة يأتون زرافات ووحدانا للحاجة والسلام.. وآنية التمر لا تغيض والقهاوي تباعاً، وهو صاحب مزاج في القهوة يختار أجودها ويجيد صنعها بنفسه ولضيفه، ويكثر الهيل فيها، ولا يسمح لأحد بتولي ذلك ولا بصبها ما لم يكن الحضور كثيراً يحتاجون لقيام، ويشربها صرفاً، (بدون قدوع (17)) قبل الفجر وقبل الظهر وبعد المغرب، ثلاث أوقات يعتبر فيها القهوة برنامجاً ثابتاً، وعادة لازمة يؤثر تركها في نفسيته وربما في صحته. وكان معتاداً على القيلولة (النوم قبل الظهر)، وينام في الليل باكراً فلا يسهر إلا نادراً ولحاجة شديدة، وكان ملازماص للأوراد الشرعية، مداوماً على كحل عينيه بالإثمد الصافي عند النوم كل ليلة، فأفاده -بإذن الله- قوة في الإبصار في شيخوخته، أما سمعه فثقل في آخر حياته، ولم يكن بكثير الاختلاط بالأهل والذرية نهاراً غالباً إذ يكون في جهة الرجال من البيت قريباً من قصّاده. وقد تزوج مرتين في وقتين متقاربين آخرها عام 1342ه، تزوج الوالدة منيرة بنت عبدالله بن عبدالعزيز الراشد (من أهل التويم وحريملاء) بسبب مرض زوجته الأولى نورة بنت سليمان التركي وتعطل بيته ولم تلبث أن ماتت ولم تنجب، أما الوالدة فرزقه الله منها ثلاثة ذكور؛ مات منهم اثنان صغيرين وسبع إناث توفيت إحداهن كبيرة على مولودها البكر، أما الأخرى فتوفيت صغيرة جعلهم الله أفراطا شفعاء مجابين وقد أقر الله عينه قبل وفاته بعدد كبير من الأحفاد والأسباط. وبعد أن شعر بالضعف والمشقة تقاعد في نهايات القرن الرابع عشر وتفرغ للعبادة وتلاوة القرآن وملازمة البيت مع التبكير إلى المسجد للجمعة وصلوات الفروض. وفي عام 1401ه كنا في المدينة النبوية، فخرج في إحدى الجمع في رمضان للوضوء -على غير عادة منه- (صَكةُ(18) عُمى) أي قبيل دخول الخطيب فمشى على البلاط الحامي حتى سقط أرضاً وحمل إلى الظل وقد تورمت قدماه تورماً شديداً ونقلناه بعد الصلاة إلى المستشفى الحكومي فبقي فيه مدة طويلة ثم خرج منه ولازم الفراش مدة أطول حتى شفي من الآثار الظاهرة، وبقيت (19) العقابيل)، وأخذت صحته في التدهور شيئاً فشياً حتى أصيب بعي في الكلام في العهد الأخير وأصبح ذلك الخطيب المصقع المؤثر يُتأتئ في الكلام ويتعثر في إخراج الحروف، وفي ذلك عبرة وذكرى وصدق الله العظيم (.. جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة). وفي أول ليلة الخميس لثلاث وعشرين خلون من جمادى الآخرة عام 1405ه وافته المنية عن تسعين عاماً. وإنا لنرجو له الشهادة ولذلك بشائر إن شاء الله، فإني لاحظت طولاً في بعض أظفاره فقلمتها، ونزل القمص قليلاً فدميت أصبعه، ولم يشرع في تغسيله إلا قبل الظهر وجسمه طري كأنه جسم نائم. وصلي عليه ظهر ذلك اليوم وحضر جنازته قاضي البلدة وأميرها والأعيان من جلاجل وغيرها من سدير والرياض وأمهم في الصلاة عليه العبد الفقير ابنه الوحيد كاتب هذه الترجة وحمل على الأكتاف يتناوب النعش الأحباب أفواجاً أفواجاً في بكاء ودعاء وثناء، والناس شهود الله في أرضه. ابنه/ عبدالعزيز بن أحمد السلمان - عفا الله عنه ****** هوامش * هو الشيخ عبدالله بن عبدالوهاب بن زاحم نقل إلى قضاء الرياض ثم المدينة النبوية قاضياً وإماماً في المسجد النبوي. (1) هي غرس الإنسان نخلاً في أرض غيره مقابل النسبة من الغرس. (2) الماء الغزير الثابت في الآبار. (3) أي في إبل وخيل وغنم. (4) الذهب والفضة. (5) الكالف: الذي يعمل لدى الفلاحين بالأجر مشاهرة. أما نطق الكلمة العامي ففوق السين ودون الكاف، كما ينطقون في نجد بعض الكلمات مثل كبير، ومكان، وكايد.. ونحوها. (6) المقاربون له في السن. (7) طالب علم تولى القضاء في آخر حياته في الأرطاوية وبقي فيها حتى توفي. (8) طالب علم حسن المعشر تولى القضاء في عدة بلدان منها قرية السفلى والأرطاوية قبل الشيخ إبراهيم بن فايز. (9) من يسلك الطريق ماشياً أو راكباً. (10) العارض: تطلق على منطقة الرياض. (11) هو الشيخ العلامة عبدالله بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن العنقري قدم من بلدة ثرمداء في منطقة الوشم إلى جلاجل قاضياً لمنطقة سدير عام 1324ه وبعد تسليم المجمعة عام 1326ه أضاف الملك عبدالعزيز إليه قضاء المجمعة فأقام فيها فكان يحضر كثيراً إلى جلاجل لأنه تزوج فيه بثلاث زوجات هن هيا الأحيدب، وجوهرة الثاقب، وحصة الفايز، وتوفي في شهر صفر من عام 1373ه في المجمعة رحمه الله. (12) طبعت المقامة أثناء ترميم تلك المخطوطات في دارة الملك عبدالعزيز. (13) وكمثال على ذلك أنه كان يبلغ أهل المعشبة بأخبار هلال رمضان والفطر إذا وردهم الخبر عن طريق أمير الكافة، وفي إحدى المرات دفع أهل المعشبة خطابه إلى أهل (الحريق) فصاموا وبعثه أهل الحريق إلى أهل شقراء فعملوا به بناء على معرفتهم به يقيناً. (14) الدثور: الأموال. (15) الصقلة: هي لعبة معروفة عبارة عن خمس حصوات لها أسلوب في اللعب. (16) الشمال: من يجيد عمل النخلة وتهذيبها من تشويك، وتلييف وتلقيح وصرام.. ونحوه. (17) الكر: آلة صعود النخل الطوال الملساء الجزع. (18) القدوع: التمر مع القهوة أو قبلها بقليل. (19) عبارة تطلق على القايلة وشدة حرارة الشمس صيفاً. (20) الآثار السلبية.