نحن لا نختار عائلاتنا ولا أسماءنا ولا مدننا ولا حكاياتنا، حتى مستقبلنا التعليمي والوظيفي قد تحكمه درجة علمية أو مفاضلة، فنحن نعيش مسيَّرين في الكثير من تفاصيلنا اليومية والأبدية وربما الاختيار الوحيد الذي قد نمتلكه تمامًا هو الأصدقاء فهم الانتقاء الخالي من الاحتمالات والخالي من أي تدخلات زمنية أو ظروف معيشية، هم أشخاص وضعتهم الأقدار في طرقاتنا، تكيفنا معهم وأحببناهم بعمق فتحولوا من غرباء إلى عائلة، ومن عابرين إلى سُكان، وأصبحوا بريق الأيام الجميلة وسند المواقف الصعبة، لم يجمعنا النسب ولا الدم ولا المكان ولكن التقت أرواحنا وتآلفت، فالإنسان بفطرته يحتاج إلى التوافق الفكري والروحي والنفسي، يحتاج إلى تلك المساحة الآمنة التي يلجأ إليها عندما ترهقه الأيام، يحتاج إلى مرآة يرى نفسه من خلالها دون عناء التبرير، ودون خشية الفهم الخاطئ، ودون الاستنزاف النفسي في شرح الأشياء. في الجانب الإجباري من الحياة نحن نحاول المرور دون خسائر، ونجاهد حتى نصل، نتجنب الدخول إلى الأماكن الضبابية حتى لا نقع، أما في جانب الأصدقاء تصبح الحياة أكثر طراوة، وتستقيم العديد من الانحناءات وتضمر آلامنا شيئًا فشيئاً، تكبر أحلامنا، وتتسع نجاحاتنا. كنت دائمًا على يقين بأن الأصدقاء كيانٌ داعم لزيادة إنتاجية الفرد وتفاعله مع الحياة، فالصديق يصفق للانتصارات، ويرمم الخيبات، ولا يسمح بالسقوط بل يكون دائمًا في مقدمة الأشياء النبيلة، ويكون الوسيلة للتشافي من كل تلك الكسور التي أصابتنا. عرفت الصداقة منذ زمنٍ مبكر، منذ طفولتي الأولى، منذ أن تقاسمت مع صديقاتي الحلوى والشطيرة وقلم الرصاص، منذ أن تقاسمنا الأوراق والأفكار والأسرار، منذ أن خبأنا أحلامنا على مقاعد الدراسة فنجا بعضها وبقي الآخر على قارعة الذاكرة، منذ أن تعاهدنا أننا سنكمل وإن تآكلت لقاءاتنا، حينها تأصل مفهوم الصداقة العميق، وتأكدت أنها لن تتقيد بالمسافات ولا بالظروف ولا بصواعق الزمن، بل ستكبر مع الأيام والحكايات الدافئة، فمهما كانت آلامنا نحن نتعافى بالأصدقاء ونقف مجددًا.