حفل الشعر العربي في عصوره المختلفة بخطاب اعترافي سجل فيه الشعراء صلتهم بملذات الحياة، والاعتراف يدور بين فلكي الانكسار والاستكبار، فتارة ترى الشاعر يعترف منكسرًا متذللًا بحبٍّ، أو بذنبٍ، أو بجهلٍ وخطأ، غير أنك تراه في أحايين أخرى يطرق باب الاعتراف مستكبرًا عنيدًا مجاهرًا، ومن صور الاعتراف الاستكباري الاعتراف بالسكر وارتياد أماكن اللهو. إن تلك القيم والممارسات الثقافية على أي حال أنتجت لنا نصًا أدبيًّا وواقعية شفافة يقدمها الشاعر في قالب تزييني استعراضي حتى صار ذلك النص واقعة ثقافية تستند إلى بنية كما يقول رولان بارت. والنص الشعري حينما ينتجه المبدع يتلقاه القارئ بعيدًا عن ذهنية المبدع الخالصة، فليس صورة لذات المؤلف فحسب، بل تتشارك معه ذات المؤلف الجماعي «الثقافة» واللغة بوصفها نظامًا؛ فالإنسان الشاعر يحيا في ثقافات متعددة ومتنوعة فيحملها معه في شعره لتتجلّى في منجزه، «وكل تجربة هي كليًّا ثقافية». وقد ضمّن طرفة بن العبد شعره تجربة ثقافية متباينة بين مقامين وموضعين، مقام السؤدد وموضع الشرف والنسب، ومقام الهزل وموضع اللهو وأماكن الشرب والسكر، يقول: وَلَسْتُ مِحْلَالَ التِّلَاعِ مَخَافَةً وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ الْقَوْمُ أَرْفِدِ فَإِنْ تَبْغِنِي فِي حَلْقَةِ الْقَوْمِ تَلْقَنِي وَإِنْ تَقْتَنِصْنِي فِي الْحَوَانِيتِ تَصْطَدِ وَإِنْ يَلْتَقِ الْحَيُّ الْجَمِيعُ تُلَاقِنِي إِلَى ذِرْوَةِ الْبَيْتِ الرَّفِيعِ الْمُصَمَّدِ وهذه الأبيات تمثل شفافية الاعتراف عند الشاعر، إذ يسوق اعترافه الاستكباري في ارتياد أماكن اللهو والشرب ولا يبالي في التصريح بذلك رغم ما يعتقده من أن الفضل في الضد.. ولكن هذا الاعتراف جاء ليحمل دلالات ثقافية وينطوي على أنساق خفية أثرت فيها الثقافة. فطرفة بن العبد حين افتخر بكرم الضيافة وقرى الأضياف والشجاعة وقتال الأعداء وانتمائه إلى ذروة بيت شريف ونسب رفيع جاء بما يكسر تواتر تلك الفضائل واتساقها في اعتراف يناقضها، وذلك في قوله: «وإن تقتنصني في الحوانيت تصطدِ» إن الشاعر بهذا الاعتراف يحاول الوصول إلى درجة الكمال في الفضائل؛ إذ إن النفس البشرية مجبولة على الخطأ والصواب ولا عصمة إلا للرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام. وإن وصف النفس بعبارات المدح والثناء وتنميقها بفضائل لا يخالطها شيء من الزلل يجعل هذه النفس البشرية والشخصية الإنسانية ملائكية لا وجود لها في دنيا البشر، وقد تنبه الشاعر لهذا الأمر المنطقي فجمل فضائله بذلك الاعتراف العكسي الذي كسر تراتب صفات الفضل والسؤدد والشرف، وكان دقيقًا عارفًا بنظام اللغة، حيث قيد اعترافه بلفظتي «تقتنصني» و»تصطد» الدالتين على أن هذه الحال وذلك الارتياد لا يمثل إلا جزءًا يسيرًا من وقته، الوقت الذي يقضي جله في الفضائل والمكارم. ولم يكن هذا الاعتراف سوى توكيد لفضائله ومكارمه، إذ جعله نسقًا يمرر من خلاله ما يدعيه من مكارم الأخلاق، وهذا يجعل نسبة صدقه لدى المتلقي أكثر قبولًا. ومع ذلك كله فإن الثقافة فاعل بارز في النصوص الأدبية تأثيرًا وتأثرًا، وما الشاعر إلا أداة ومنتج يُصوّر في نصه ثقافة حاضرة في مجتمعه عاشها أم لم يعشها، تتباين وتتفاوت قبولًا ورفضًا.