تظهر آخر استطلاعات الرأي في الولاياتالمتحدة، والتي أجرتها صحيفة فاينانشال تايمز بمشاركة كلية روس للأعمال في جامعة ميشيجان، عن تقدم الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترمب، على الرئيس الحالي جو بايدن بمقدار 11 نقطة فيما يتعلق بإدارة الاقتصاد، فما حقيقة هذا الأمر وفقاً لأرقام كلا العصرين؟ وهل يصبح الاقتصاد المرجح الأساسي للفوز برئاسة الولاياتالمتحدة خلال انتخابات شهر نوفمبر المقبل؟.. الحقيقة، أنه إذا كان البعض قد عد السباق الرئاسي في 2020 بمثابة استفتاء على رئاسة ترمب، إلا أن انتخابات 2024 ستكون مختلفة، حيث يمكن الفوز بها أو خسارتها بناء على نجاح كل مرشح في التعبير عن إنجازاته الاقتصادية، حيث يهيمن الاقتصاد بقوة هذه الأيام على اهتمامات الناخبين الأميركيين، فإذا نجح الاحتياطي الفيدرالي في إعادة التضخم إلى هدفه البالغ 2 % دون دفع الاقتصاد للركود، فهذا سيكون في صالح بايدن، أما إذا حدث هبوط اقتصادي صعب فسيكون ذلك الأمر في صالح ترمب. رغم أن الرؤساء الأميركيين لا يسيطرون في الغالب على الشأن الاقتصادي، الذي تتولاه المجموعة الاقتصادية، إلا أن سياسات الرئيس تلعب دوراً كبيراً، وقد ورث ترمب، اقتصاداً صحياً إلى حد ما من الرئيس السابق باراك أوباما، ففي عهد ترمب، نما الناتج المحلي الإجمالي بمعدل قوي، واستقرت الأسعار، وانتعشت سوق الأسهم، مدعومة جزئياً بالإنفاق التحفيزي الذي استهدف كبح التأثير الاقتصادي السلبي لوباء كورونا، وقد دافع ترمب عن إعادة وظائف التصنيع إلى أميركا، وفقاً لشعار "أميركا أولاً"، وتفاوضت إدارته على صفقات تجارية أفضل، وقلصت القيود التنظيمية، وخففت ضرائب الشركات، ومع ذلك، فقد أدى قانون التخفيضات الضريبية لعام 2017 إلى ارتفاع الديون الفيدرالية، في المقابل، حرص بايدن على دعم الطبقة الوسطى، وأنفق بسخاء لمواجهة تأثير الجائحة، وأصدر الكونجرس تشريعات اقتصادية تاريخية خلال السنوات الثلاث الأولى لبايدن، بما في ذلك قانون الإنقاذ الأمريكي، وقانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف، وقانون خفض التضخم، وقانون الرقائق والعلوم، لكن هذا الإنفاق، إلى جانب التعديلات الاقتصادية في مرحلة ما بعد كورونا، أدى إلى ارتفاع التضخم بشكل عنيف، مما أضر بنسب تأييد بايدن في استطلاعات الرأي. على مستوى النمو، بلغ متوسط الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، 2.6 % خلال السنوات الثلاث الأولى لترمب، وهو أداء لائق ولكنه أقل من النمو الاقتصادي الذي تعهد بتحقيقه بنسبة 4 %، وقد جاء الكثير من هذا النمو من التخفيضات الضريبية وزيادة الإنفاق، في المقابل، ومنذ تنصيب بايدن، نما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بمتوسط 3.4 % سنوياً، والكثير من هذا النمو أتى خلال عام 2021 بسبب آليات التعافي التلقائي في الاقتصاد بعد عمليات الإغلاق المرتبطة بالوباء، ومع ذلك، سجل الناتج المحلي الإجمالي نمواً بنسبة 2.5 % في 2023، بعد تبدد قدر كبير من انتعاش التعافي، فيما تبلغ تقديرات النمو الصادرة عن الاحتياطي الفيدرالي للربع الأول من العام الجاري 2.8 %. وبالنسبة لسوق الأوراق المالية، فقد بلغ متوسط نمو مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بشكل عام 10 % سنوياً منذ إنشائه وحتى نهاية عام 2023، لكن أداء مؤشر سوق الأسهم القياسي كان أفضل بكثير خلال السنوات الثلاث الأولى للرئيسين، فمنذ تنصيب ترمب في 20 يناير 2017 وحتى نهاية عام 2019، ارتفع مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة 42.2 %، وقد ساعدت التخفيضات الضريبية لعام 2017 على خلق بيئة مواتية للاستثمار، في حين شجعت البطالة المنخفضة الإنفاق الاستهلاكي، ونتيجة لذلك، أشرف ترمب على أطول سوق صاعدة على الإطلاق، والتي استمرت لمدة 132 شهراً، قبل أن تنتهي في فبراير 2020 في عمليات بيع دراماتيكية مرتبطة بتفشي الجائحة، في المقابل، أشرف بايدن على قفزة بنسبة 23.8 % في مؤشر ستاندرد آند بورز 500 منذ تنصيبه في 20 يناير عام 2021 وحتى نهاية عام 2023، وسجل المؤشر 69 رقماً قياسياً في تلك الفترة، مقابل 115 خلال الفترة المماثلة من ولاية ترمب. والأمر ذو شجون عند مقارنة التضخم بين العهدين، فخلال عهد ترمب، تمتع الأميركيون بمعدلات تضخم منخفضة نسبياً، حيث بلغ مؤشر أسعار المستهلكين أعلى مستوى له في يونيو 2018 بنسبة 2.9 % فقط، ومع ذلك، فقد غيرت الجائحة مسار التضخم، حيث أدى تعطل سلاسل الإمدادات، ومليارات الإنفاق التحفيزي، والطلب المكبوت إلى قفزة الأسعار بشكل حاد، وأضاف الغزو الروسي لأوكرانيا المزيد من الضغوط على الأسعار، وخاصة في قطاع الطاقة، ليصل مؤشر أسعار المستهلكين ذروته عند 9 % خلال يونيو 2022، أي في العام الثاني لولاية بايدن، وقد هبط التضخم منذ ذلك الحين إلى 3.1 %، بعدما رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة 11 مرة خلال العامين الماضيين، إلى نطاق يتراوح بين 5.25 % إلى 5.50 %، لتهدئة الأسعار، ومع ذلك، فإن أزمة تكاليف المعيشة، وخاصة بالنسبة للطعام، طاردت رئاسة بايدن، حيث زادت تكاليف الغذاء بأكثر من 20 % منذ ولاية بايدن. وعلى صعيد أسعار الفائدة، نجد أنه عندما تولى ترمب منصبه، كان المعدل المستهدف 0.5 % إلى 0.75 %، وبحلول يناير 2019، رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة إلى نحو 2.25 %، ثم خفضوها بمقدار نقطة مئوية في تخفيضات متتالية في وقت لاحق، بينما في عهد بايدن، أجبر التضخم الاحتياطي الفيدرالي على شن حملة التشديد النقدي الأكثر عدوانية منذ أربعة عقود، ورغم أن الإجراءات اللاحقة التي اتخذها البنك المركزي أدت إلى هبوط التضخم من ذروته، فإنها أدت أيضاً إلى تشديد الظروف المالية، وتراجع قدرة الأميركيين على الوفاء بتكاليف سوق الإسكان، وقد وجه ترمب أثناء ولايته انتقادات حادة إلى جيروم باول، رئيس الاحتياطي الفيدرالي، عندما رفع أسعار الفائدة في عام 2018، في المقابل، نادراً ما كان بايدن يعلق على السياسة النقدية لصديقه جيروم باول. وعلى صعيد الديون، فإن إدارتي ترمب وبايدن اختارتا إدارة الاقتصاد الأميركي بشكل ساخن عبر القروض والتحفيز، وربما نجح هذا الأمر بشكل أكبر في عصر ترمب، لأنه لم يخلق تضخماً، لكنه خلف إرثًا ضخماً من الديون، وهو ميراث ثقيل يمتلكه بايدن أيضاً، إذ يبلغ الدين العام الأميركي اليوم 34.3 تريليون دولار، أي ما يعادل 101.976 دولاراً لكل أميركي، حيث أضاف بايدن 3.8 تريليونات دولار من خلال قانون الإنقاذ الأميركي، وهو تشريع تحفيزي في عصر الوباء تم إقراره في بداية رئاسته، لكن الملاحظ هو أن الكثير من تشريعات الإنفاق في عهد بايدن حظيت بتأييد الحزبين الجمهوري والديمقراطي، لهذا، لا ينبغي لإدارته أن تتحمل المسؤولية وحدها، في المقابل، أضاف ترمب 8.4 تريليونات دولار إلى الدين العام، بما في ذلك حوالي 3.8 تريليونات دولار في عام 2020، عبر تشريعات تحفيز لدعم الاقتصاد، وأدت التخفيضات الضريبية عام 2017 إلى إضافة 2.2 تريليون دولار من الديون. وبالنسبة لسوق الوظائف، فقد أشرف ترمب على سوق عمل قوية، فقد تولى منصبه مع معدل بطالة 4.7 %، وهبط به إلى 3.5 % في سبتمبر 2019، وهو أدنى مستوى منذ 50 عاماً، وأضاف الاقتصاد الأميركي 6.4 ملايين وظيفة خلال فترة ولايته قبل تفشي فيروس كورونا، وعند هذه النقطة، ورث بايدن سوق عمل تعاني من الفوضى المرتبطة بالوباء، فخسر الاقتصاد 9.3 ملايين وظيفة في 2020، ووصلت البطالة إلى 6.4 % مع بدايات 2021، ولكن بحلول يناير 2023، ومع تراجع أزمة كورونا وإعادة فتح الاقتصاد، هبطت البطالة إلى 3.4 %، وهذا هو أدنى معدل منذ 54 عاماً، حيث أضاف الاقتصاد 14.8 مليون وظيفة جديدة في الفترة من 2021 إلى 2023، مع متوسط مكاسب شهرية في الرواتب 412 ألف وظيفة. وعلى صعيد الأجور، فإنه بالرغم من أن ترمب أعلن في خطابه عن حالة الاتحاد عام 2020 أن الولاياتالمتحدة تشهد "ازدهاراً للعمال"، فإن معظم الأسر في الطبقتين الدنيا والمتوسطة لم تشعر بذلك، وارتفع متوسط الأجر في الساعة بنحو 9 % في السنوات الثلاث الأولى من ولايته، إلا أن نمو الأجور الحقيقية كان بطيئاً أو راكداً بالنسبة لمعظم العمال الأميركيين منذ عام 2017 وحتى عام 2019، في المقابل، ازداد متوسط أجر الساعة بنسبة 14.8 % خلال السنوات الثلاث الأولى لبايدن، إلا أن التضخم العنيف قلص القوة الشرائية للأميركيين، ثم بدأت الأجور الحقيقية في التعافي وتجاوز التضخم في عام 2023، وإذا ظل نمو الأجور على حاله أو استمر في النمو مع انخفاض التضخم، فقد يشهد الأمريكيون توسعاً في قوتهم الشرائية. وبالنسبة لسوق الإسكان، فقد ارتفع متوسط سعر المنازل خلال رئاسة ترمب، وارتفع أكثر خلال السنوات الأولى لبايدن في منصبه، قبل أن يتوقف، وعندما دخل ترمب البيت الأبيض، كان متوسط سعر بيع المنزل في الولاياتالمتحدة 200 ألف دولار، ومن عام 2017 وحتى عام 2019، ارتفعت الأسعار بنسبة 11 %، وعلى الرغم من ارتفاع معدلات الرهن العقاري من 3.5 % في خريف عام 2016 إلى ذروة بلغت 4.9 % في نوفمبر 2018، إلا أن هذه المعدلات المرتفعة لم تخف المشترين، في المقابل، دخل بايدن منصبه وسط فورة شراء المنازل التي غذتها الجائحة، ووصلت مبيعات المنازل إلى أعلى مستوى خلال 15 عاماً في 2021، لكن رفع أسعار الفائدة، والذي بدأ في مارس 2022، أضر بشدة بمشتري المنازل المحتملين، وارتفع متوسط سعر المنزل ليصل الآن إلى حوالي 325 ألف دولار. وعلى مستوى التخلف عن سداد القروض الاستهلاكية، نجد أنه خلال السنوات الثلاث الأولى لترمب بلغ متوسط معدلات التأخر في السداد، أو نسبة الديون التي فات موعد استحقاقها، 4.7 %، في المقابل بلغ متوسط التخلف 2.8 % خلال السنوات الثلاث الأولى لبايدن، وقد أثبتت ممارسات عصر الوباء أنها مفيدة للأسر من الناحية الاقتصادية، فقد أصبح الأميركيون أقل إنفاقاً أثناء الإغلاق، وعززت شيكات التحفيز الحكومية من مدخرات الأسر، ومع قيام الأميركيين بسحب مدخراتهم أثناء الجائحة، بدأت معدلات التأخر في السداد في الارتفاع مرة أخرى، وتجاوزت 3 % في الربع الرابع، ولكنها تعد نسبة طفيفة إذا ما قورنت بمعدلات التأخر في السداد التي بلغت مستوى قياسياً عند 12 % بنهاية عام 2009، في أعقاب الأزمة المالية العالمية.