للصناديق التنموية دور كبير في التصدي لطبيعة النظام المالي الذي يميل للإفراط في الإقراض خلال فترة الازدهار الاقتصادي وبنسب فوائد مرتفعة من أجل تعظيم أرباحه، ثم يعكف للتقنين في تقديم الائتمان أثناء الأزمات، بينما تعمل الصناديق التنموية على تعظيم تأثيرها الإنمائي من خلال تقديم التمويل اللازم للشركات الصغيرة والمبدعة، ومشروعات البنية الأساسية؛ لجعل اقتصادات دولها أكثر ديناميكية وشمولية واستدامة. وفي مرحلة البناء الاقتصادي لأي دولة لابد من إنشاء هذه الصناديق التنموية بصفتها الأداة الرئيسة لتحقيق النهضة الاقتصادية والصناعية لها، ففي ألمانيا مثلاً وبعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية أنشأت صندوق التنمية كمؤسسة ائتمانية عام 1948م، والذي رافق إعادة بناء ألمانيا الصناعية، وكان له الدور البارز والكبير في تمويل العديد من البرامج والمشروعات التي أعادت هيكلة الاقتصاد، وساهم في تطوير الصناعات المستقبلية المهمة من الناحية الاستراتيجية، وتمويل الشركات الناشئة، وكان أبرز الداعمين لقطاعات مهمة وجديدة مثل الطاقة المتجددة وكفاءة استخدام الطاقة، وكذلك التركيز على المجالات التي يغيب عنها القطاع الخاص، حتى أصبح الاقتصاد الوطني لألمانيا الأكبر في أوروبا. وفي مرحلة البناء الاقتصادي والصناعي للدولة السعودية في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- عام 1974م انطلقت رحلة صندوق التنمية الصناعية، ليقود قطاع الصناعة، ويكون بمثابة الأب الروحي لها، فقد بدأ الصندوق مسيرته كمؤسسة مالية لتحقيق أهداف وبرامج التنمية الصناعية في المملكة، والتي هدفها الأول دعم القطاع الخاص في مجالات الصناعة كافة؛ للارتقاء بالقطاع الصناعي من خلال تقديم كفاءات وطنية مؤهلة، وتأسيس مصانع جديدة وتحديث وتطوير المصانع القائمة عبر منح القروض الميسرة، وتقديم الاستشارات الإدارية والمالية والفنية والتسويقية للمنشآت الصناعية من أجل بناء قاعدة صناعية وطنية بالتكامل بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص، وعن فكرة إنشاء الصندوق يقول معالي المهندس عبدالله بن محمد رحيمي: "الصندوق الصناعي أحد النماذج الناجحة المميزة بين المؤسسات الحكومية؛ ففكرة إنشاء الصندوق أساساً تعبر عن رؤية عظيمة، فهي بمثابة تخصيص المال العام لكل من يرغب من المواطنين أفراداً ومؤسسات وشركات للمساهمة في التنمية الصناعية وبفرص متكافئة.."، وعن دور الصندوق قال معالي وزير الصناعة بندر الخريف: "نحن نفتخر بما يقدمه الصندوق الصناعي من أداء يأتي تماشياً مع الخطط الطموحة لرؤية المملكة 2030م؛ لتحقيق مستهدفاتها، وجعل المملكة قوة صناعية كبرى ومنصة لوجستية عالمية.."، ويصف معالي وزير الاستثمار خالد الفالح، الصندوق بأنه "شيخ الصناديق"؛ لأنه أكثر إبداعاً ومساهمة في الاقتصاد الوطني. وقد كان أول مشروعاته تمويل مصنعين لإنتاج البطاريات وقص الرخام وصقله، وساهم الصندوق في تطوير قطاع الكهرباء، وموّل مشروعات حفظ وتعبئة التمور، وقدم قروضاً لقطاعي البناء والإسمنت والمنتجات الهندسية، كما موّل مستودعات التبريد، وكان له دور فعال في تنمية صناعة الكرتون المضلع، وأدار الصندوق برنامج "كفالة" لضمان تمويل المنشآت الصغيرة والمتوسطة. وفي عام 2018م شهد الصندوق الصناعي نقلة نوعية في رحلته الخمسينية، عندما وافق مجلس الوزراء على تعديل النظام الأساسي للصندوق، وإعادة هيكلته لتفعيل دوره بشكل أكبر في الاقتصاد الوطني، ويكون الممكن المالي الرئيس لبرنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية "ندلب"، أحد أهم برامج رؤية 2030م، مما مكنه من لعب دور بارز في مجالات الصناعة والتعدين والطاقة والخدمات اللوجستية، لجعل المملكة منصة صناعية ولوجستية مميزة، كما أطلق الصندوق حزمة جديدة من الخدمات والمنتجات التمويلية للمساهمة في الوفاء باحتياجات القطاع الصناعي وتمكينه ودعمه مثل: "آفاق، ومتجددة، وتوطين، وتنافسية"، والعديد من المنتجات المالية منها تمويل متعدد الأغراض ومنتج الاعتماد المستندي، وتمويل رأس المال العامل، ومنصة تمكين لأتمتة رحلة العميل. ومن المحطات البارزة في الصندوق إنشاء أكاديمية الصندوق الصناعي عام 2019م، والتي ساهمت بدور مهم في تنمية الكوادر البشرية من خلال تقديم أحدث المعارف ونقل الخبرات التعليمية لمنتسبي المنظومة الصناعية في شتى المجالات بالشراكة مع جهات تعليمية محلية وعالمية رائدة مثل مركز ستانفورد للتطوير المهني، وفيتش التعليمية، وجامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا، ومؤسسة مسك الخيرية، وغيرها؛ سعياً منها لمواكبة تطورات المجالات المهنية والمعرفية في القطاعات التي يستهدفها الصندوق "المالية، والأعمال، والرقمنة، والابتكار"، وبحسب "واس" قدمت الأكاديمية أكثر من 111 برنامجاً تدريبياً وندوة استفاد منها نحو 12000 متدرب ومتدربة من أكثر من 350 جهة حكومية وأهلية حتى نهاية عام 2022م. وكذلك تأسيس شركة الصندوق الصناعي للاستثمار عام 2022م؛ بهدف العمل على رفع مساهمة القطاع الخاص في الاستثمار بمشروعات الصناعة والطاقة والتعدين والخدمات اللوجستية، وتشجيع رواد الأعمال والمستثمرين في التوسع بمجالات القطاعات المستهدفة، وتنمية اقتصاد المملكة من خلال المساهمة في نمو الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي والاستثمار بالمشروعات الواعدة. أتمنى على الصندوق أن يحافظ على المكتسبات الحالية، وأن يزيد الاهتمام بالمستثمرين والصناعيين الوطنيين المجتهدين الذين يتمتعون بروح المغامرة في تنمية صناعة بلدهم أكثر من غيرهم، وتقديم الاستشارة والدعم والمساندة لهم في حال تعثرهم -لا قدر الله-، لأن بقاءهم بقاء للصناعة في وطن يحتاجها بشدة، والتوسع في تمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة بشكل مباشر أو الاستثمار فيها، وكذلك تمويل الشركات الناشئة عالية المخاطر، ودعم الشركات التي ترفع نسبة التوطين فيها وتعتمد على المحتوى المحلي، وربط ذلك بقدرتها على التوسع في التصدير للأسواق المحلية والعالمية، كذلك أتمنى زيادة الحوافز التفضيلية والتشجيعية لمشروعات الطاقة المتجددة وللمشروعات التي تحقق نسب توطين مرتفعة. أخيراً، أتقدم بالشكر والتقدير لقيادتنا الرشيدة -حفظها الله- على ما توليه من اهتمام ودعم لقطاع الصناعة للوصول إلى اقتصاد صناعي مصدر للمنتجات السعودية بالشراكة مع القطاع الخاص، ورفع الناتج المحلي الصناعي إلى 895 مليار ريال وفق تطلعات ومستهدفات رؤية المملكة 2030م.