المقهى الثقافي.. أو ما يمكن أن نطلق عليه المقهى القديم.. الذي اعتاد التاريخ على أن يعكسه في مراياه زوايا تعجّ بالمثقفين يتبادلون الثقافة حياة، وفوضى المكان نظامًا إبداعيّا غاية في التأثير، اليوم يعود ذلك المقهى برؤى عصرية مدهشة عبر برنامج الشريك الأدبي الذي اختار الطريقة المثلى ليجعل من الثقافة فعلاً اجتماعياً وبصورة ذكية مرنة مدعومة من قبل وزارة الثقافة ماديّاً ولوجستياً، في الوقت الذي تراجع فيه النادي الأدبي وقد حمل على عاتقه طوال العقود الخمسة الماضية وزر المناشط الثقافية بكل ما واجهه من عثرات ومن تسلّط عليه في كثير من الأحايين قبل أن ينبثق نور الثقافة من جديد عبر برامج متنوعة حظيت بالرعاية والدعم من قبل قيادتنا الرشيدة في هذا العصر.. ذاك النادي الأدبي أو هذا لا يزال يقيم في زاوية ذكرياتنا الثقافية، تحيط به الجماهير ثم لا تدخل بابه إلا وقد تهيّأت للملل، وتكاثرت بالغياب، وانصرفت عنه لغيره آخر الأمر، ولاشك أنني أقول هذا بأسى وحزن لأنه بيتي القديم من أول «المدينة» حتى آخر «الرياض» لا أتذاكره زاجرًا، ولا أصادره عقوقاً، لكنني حتمًا أخاف عليه الزمن إن لم يبدّل هيأته التاريخية الجامدة، ويفتح للعصر أبوابه على مستوى الحدث والمكان، فأنديتنا الأدبية في جلها مبانٍ «تائهة» لا تنتمي للتراث، ولا تتسع لحاضرها.. ليس أكثر من قاعة ومايكرفون.. وصفوف صامتة تتناقص مع الوقت حتى لم تعد تكمل صفّاً واحداً، دون إغفالٍ بالطبع لماضيه التنويري، وقيامه بدوره الزمني المؤثر والمهم، وهو واقعٌ آنيّ يدركه قبلنا القائمون على إداراته في مناطق المملكة كافة، لكنهم اكتفوا بما هم عليه وإن جاهدوا في محاولة خلق أنشطة اجتماعية متنوّعة إلا أنها كما يبدو هي الأخرى باتت مكرّرة ونمطية، ولم تعد جاذبة لتلك الجماهير التي تتكاثر في مناشط الحياة ثم تدير ظهرها لهذه البوابة المشعة طوال العقود الماضية، وبالتالي يبدو أن مستقبل هذا النادي أو ذاك آيلٌ للتحوّل إن لم يكن للزوال في ظل عجزه عن القيام بأدوارٍ عصرية تختلف جوهريّا عن أدواره الماضية، لهذا كم تمنيّت أن تبادر الأندية الأدبية بحسب إمكاناتها إلى تغيير شامل في حضورها الاجتماعي وتتقاطع بشكل مباشر مع الترفيه وجمعية الفنون.. ولعل برنامج الشريك الأدبي اليوم فرصة مواتية للأندية الأدبية لتتكاثر من خلالها وتستثمر فيها، وإن لم يكن بمقدورها ذلك مادياً أو تنظيمياً، فعلى الأقل تغير من آليتها القديمة لتشكّل بيتًا ثقافيا يستمد هويّته واسمه من خلال مدينته.. هكذا مثل بيت الرياض الثقافي.. جدة.. الدمام..الخ، وبموقع يتسع لمسرح ودار سينما ومعرض للفنون التشكيلية ومكتبات نوعية.. ثم تتحوّل إلى مكان اجتماعي مفتوح يرتاده الجمهور كملتقٍّ لا يحتمل الوصاية ولا حتى الإدارة، وبالطبع يتحول المكان برمّته إلى مساحة ثقافية استثمارية متكاملة تموّلها رعايات وحقوق، وتوفر لمرتاديه اللحظة الثقافية المشبّعة بجودة الحياة حين تكون الثقافة بناء حضارة، وصياغة رؤية.. أطرح هذه السطور في الوقت الذي يقام ملتقى النص في نادي جدة الأدبي وهو النادي الذي راهن دائما على التأثير في ساحتنا الثقافية ونجح كثيرا فيها، وأظن أنه لولا مثل هذه الأعمال النخبوية لنسينا أو نكاد أن هناك أندية أدبية لاتزال أبوابها مفتوحة . إن فكرة «أننا مجتمع ينفر من الثقافة» كمبرّر معلّب يردّده العاجزون وربما المنتفعون من هذا الركود والجمود الذي تبدو عليه حال الأندية الأدبية، يجب أن تغيّب عن أذهان القائمين عليها، فمجتمعنا اليوم قارئ نهم ومقبل بشكل كبير على المناشط الثقافية متى ما تماهت مع احتياجاته وهويته الاجتماعية.. لهذا غيّروا وجودكم قبل أن تزداد غربتكم فينا، وينتهي أمركم حتى دون علمنا.