في تمهيده لإحدى قصائده، يسرد الشاعر الإنجليزي "جون درايدن" أن نجاح خيال الشاعر ينحاز نحو الابتكار وتلمس الأفكار، وهو ما ينطبق على الفنون البصرية، لتدلل تجارب الاستلهام على دلالات إشارية لقدرة الموروث في التفاعل مع إلهام عملية الإبداع، لتتشكل وتتجلى رؤية الفنان للعالم، وتتحفز القدرات الإبداعية بفاعلية نشطة على المستويين البنائي والوظيفي أو التركيبي والدلالي بما هو حافز لبناء الوقائع وبما هو حافز لتنشيط الدلالات. فمع بزوغ فجر التحليل النفسي والأبحاث الإنسانية التي ارتكلت لعلاقة الإنسان والطبيعة والمحيط الخارجي وطرق قراءة الموروث من نواحٍ ذهنية فكرية ونفسية واجتماعية، لم يعد يقيم القالب الفني في كونه عدسة مصور للطبيعة، لتزول وتنجلي قدسية النسخ، لصالح الارتكازية بأن الفن نتاج ذهني فكري يتخطى الحاجات البشرية، ويرتبط بالذات في جل تعقيداتهما وتشظيهما، كممارسة فنية تحمل ذاكرة حسية ضمنية، تعج بالمفاهيم والتصورات الحياتية. حيث تتنوع الذاكرة الحسية التي يمتلكها الفنان وقدراته على القراءة والتحليل والتفنيد، والاحتفاظ بانطباعات المعلومات الحسية والمواقف والتصورات واسترجاعها، وإكسابها معنى ومفهوماً ضمنياً بفعل الإحساس الناتج عنها، ما بين (الذاكرة الأيقونية وهي الذاكرة الحسية البصرية، التي تحتفظ بالأشكال الصورية كمخزن حسي مرئي تمثيلي عبر عين خاصة ومخيلة محلقة تلتقط في ديمومة للتفاصيل، وتحويل تلك المشاهدات لذاكرة بصرية توثيقية، بوسائط وتقنيات الاتصال البصري. وذاكرة الصدى كذاكرة حسية سمعية تعمل على تذكر الأصوات كمصدر للإشارات التي تشفر التجارب السابقة في القشرة المخية الحديثة. والذاكرة اللمسية الخاصة بالتواصل اللمسي). فحول تدشين حوار فاعل مع المتلقي، يجسد حراكاً لتجارب شخصية، باعتبارها جزءاً من هويته المصرية، امتلك "أحمد عبد الكريم" امتداداً مستداماً لممارسة فنية لحكاء بصري يسرد أحلامه السيميوطيقية وترجمته لواقع بصري ذي أسانيد منهجية وعمق تحليلي لاسترداف صور جمالية رهيفة ذات هوية من أرض دهشور لاستحضار الموروث التاريخي، وتحريك فنه داخل حيز العمل، المفتوح والمتسق مع (الواقعي والجغرافي المكاني -والمستلهم الموروثي)، ليلتقيان ويتقاطعان، عبر جملة رموز ارتكازية في تسطير محيطه البصري، كنتاج ترجمة عملية لتصورات منهجية داعمة لقراءات نقدية تنطلق من مكنوز ومفهوم ضمني باطن وفنتازيا متخيلة، توظف الموروث وتستلهمه بشتى تجلياته، والتوازي مع السياقات الاجتماعية للبيئة الطبيعية وتأثيرها في بناء الهوية ضمن فضاء زمني متحرك. ففن "عبد الكريم" لا يتكئ على النسخي التدويني الصوري لتلك الطبيعة، بل هو حوار راديكالي مع الطبيعة، وانعطاف لتيار يستدعي الانتباه لسماع أصواتها وسكونها الداخلي والمكتنز ويستلزم الإنصات الشديد، لصالح تسطير أبجديات وصور ذهنية للواقع نفسه، عبر صوفية وطاقات روحانية تغلفها سيميوطيقية أسطورية حالمة، تتسق وبيئة الفكر المعاصر عبر التركيز على حياة العلامات ومعالجتها شكلياً وفكرياً داخل المجتمع عن طريق وضع المعاني ودلالاتها في سياق ثقافي يشتمل على خبرات تاريخية واجتماعية وسياقات ثقافية. فاكتست أعماله بجملة تحولات جذرية في الهيئة المفاهيمية، وممارسات إبداعية نقبت عن منعطفات حداثية، تكثف فيها قوة وطاقة وسيكولوجية اللون، بما يرسم ملامح مفعمة بطاقات التعبير والمفاهيم في توجه حداثي معاصر يلج فضاءات أسطورية المشهد تعضد فعل التجاوب مع المتلقي نحو الاندماج عبر مستويات دالة، ذات صلة بالصوفي التأويلي والفلسفي المفعم بحلم سيميوطيقي ساحر عبر موروث وتراكم حضاري بصري، يضفر الصوري والمفهومي، لاستنطاق الفكرة وشحذ الرسالة التي تتلمس الجوهر السامي، وفق نصوص أشروحات حداثية تسبق تحولات الراهن فنياً. حيث يعرض عقل الفنان ومخيلته وعبر منجزه، رؤية للحياة والطبيعة، بما يحدث التغير الراديكالي في المشهد، والاستناد لمعلومات يجمعها بدقة عن محتويات العمل عبر حوارات مطولة مع أصوات الطبيعة، وتأطير صيرورة حياتية، تجعل اللامرئي مرئيًا، حسب إشارات "بول كلي"، ليغدو الفن لديه أوثق ارتباطًا بالضمني المفاهيمي الروحاني، وليس لأغراض تزيينية زخرفية وليدة الحرفة والمهارات التي تتوارى للخلفية بعد التصور والفكرة، والرؤية والثقافة والانطباعات الراسخة عن حقائق ثابتة بمسحة شاعرية، تفند خصوصية القراءة، وتعمق لنظرة تأملية مغلفة بروحانية تتسق مع رهافة الحس، وتكوينات بصرية ترسخ لترويض اللون بدرجات نابضة ترتقي للتصوف والإيقاع الروحاني. وفي دراساته وبحوثه الفنية حول أنماط من التناص السيميوطيقي وفي إطار مشروعه الإبداعي يستلهم "عبد الكريم" بكل أنماطه التعبيرية، من أساطير وحكايات وقصص وصور وغيرها، استلهاماً جزئياً أو كلياً في معظم أعماله الإبداعية، والتنقيب في طبيعة العلامات التي يستخدمها الذهن وإكسابها سيميوطيقية وإحالتها لشفرات خاصة معروفة، وصولاً لفهم الأشياء، وتوصيل معارفه لتصدير منطق ونقد خاص، عبر علاقات ترابطية لا انفصالية بين (الدال والمدلول)، وتفكير سيميوطيقي عبر مستويين (المستوى الأنطلوجي الذي يعنى بماهية العلامة ووجودها وطبيعتها وعلاقتها بالموجودات الأخرى-والمستوى البرغماتي الذي يعنى بفاعلية العلامة وبتوظيفها في الحياة العملية). إن نظام العلامات السيميوطيقية عند عبد الكريم في مشروعيتها يركز على حقيقة الأشياء في اختلافها عما تبدو عليه طبيعتها المادية المرئية، لخضوع الطبيعة لقوانين فكرية وأنظمة محددة تقنن الظاهرة وتساعد على تأويلها وتفسيرها، عبر البحث عن المعنى والدلالة واستخلاص البنية المولدة للنصوص منطقياً ودلالياً. لينطلق الحلم الميثولوجي وموضوعه لديه من تلك الأشكال الدلالية المتولدة عن سمة الشيء، والإنابة عنها، ضمن صيرورة دلالية ذات أبعاد فكرية متعددة الأطراف، وتوضيح الأثر الذي يتركه موضوع العلامة في ذهنية المفسر ومتلقي العلامة، بينما ينطلق الموضوع لديه كجزء من العلامة وليس شيئًا من أشياء عالم الموجودات، عبر منحنين (الموضوع الديناميكي أي الشيء الذي تحيل إليه العلامة والقدرة على تمثيله - والموضوع المباشر كجزء من العلامة وعنصر من عناصر تكونها). * الأستاذ في كلية التصاميم والفنون المساعد - جامعة أم القرى أحمد عبدالكريم وحالة تجمع الواقعية والإشارات الترميزية الفهم المنضبط للمعنى الدلالي عند أحمد عبدالكريم تحويل المشاهدات لذاكرة بصرية توثيقية عن أحمد عبدالكريم