حين نسأل عن دوافع الكتابة الأدبية ومحتوياتها بصفة عامّة، تتبادر إلى الأذهان مسألة الالتزام في الأدب. إن التزام الأديب حين يكتب، واحتماله تبعة ما يكتب، ووجوب أن يكون مُتّصِلاً حين يكتب بما يُحيط به من واقع الحياة، قضيّة يختلف ويتّفق عليها المُهتمون بشؤون الثقافة والأدب منذ قديم الأزمان. كما أن قضيّة صِلة الأدب بالفنون الرفيعة الأخرى، كانت ولا تزال محلّ أخذٍ وردّ. فالفنون الرفيعة والأدب يتشابهان من حيث أنهما وسائل للتعبير عن إحساس الجَمال والشعور به، ووسائل أيضاً لإشراك غيرك معك فيما تُحسّ به من جَمال، بواسطة تعبيرك عن هذا الإحساس. ولكن هذا الإحساس شيء، والاتصال الدقيق بين هذه الفنون وبين الأدب شيء آخر، فإذا قيل إن الأدب يجب أن يلتزم، ويحتمل التّبعات، ويتّصل بحقائق الحياة، فليس معنى هذا أن الفنون الرفيعة الأخرى يجب أن تخضع لهذا الحُكم. فالمُصوّر حين يُنشئ صورة بيت حقير مثلاً، فهو لا يُريد أن يوحي إليك بما قد يكون في هذا البيت من بؤس وفقر وضنك. على حين يدلّ الكاتب حين يصف هذا البيت الحقير على ما يحتويه من آلام وأحزان، فيُثير في نفسك عواطف الإشفاق والرحمة، أو عواطف الغيظ والغضب، ويُثير في نفسك بعد ذلك الرغبة في الإصلاح الاجتماعي، وقد يدفعك إلى محاولة الإصلاح دفعاً. والشِعر أيضاً، عند رأي بعض النُقّاد، يُمكن أن يُلحَق بالفنون الرفيعة التي يُمكن إعفاؤها ممّا يلتزم به النثر؛ فالألفاظ عند الناثر وسائل لا أكثر، ولكنها عند الشاعر غايات. فالكاتب يُريد بألفاظه أن يؤدّي المعنى، ويُريد الشاعر في الألفاظ نفسها جَمالاً خاصّاً يستكشفه ويُحقّقه. أما لمن يُنتج الكُتّاب والشُعراء؟ فإن أكثرهم يُنتجون للناس قبل أن يُنتجوا لأنفسهم. فالإنتاج الأدبي عندهم مُشاركة متّصلة بين الكاتب والقارئ، وهُم يكتبون لأنهم يُريدون أن يُشعروا أنفُسهم بأنهم كائنات أساسية لا يستغني عنهم العالَم، لتظهر دقائقه وتتجلّى أسراره؛ فحقائق الحياة والطبيعة موجودة سواء عرفها الإنسان أم لم يعرفها، فالزهرة الجميلة مثلاً لا قيمة لها ولا لجمالها، إلى أن يستطيع الإنسان أن يُعرّفها ويقوّمها، ويخلع عليها هذا الجمَال. فلون الزهرة وتكوينها وائتلاف بتلاتها، يٌعلّلها عِلم النبات تعليله الموضوعي الخالص، الذي لا يٌثير إعجاباً ولا شعوراً بالجَمال. وقُل مثل ذلك في الشجرة القائمة على شاطئ النهر، ومن حولها الشُجيرات والأزهار، والعشب قد انبسط على الأرض، والطير قد استقرّت على الغصون، مُتأرجحة مُتغنيّة. فبعض ما في هذه المناظر من اختلاف وائتلاف، هي في نفسها ليست شيئاً جميلاً، إذا لم يُنظر إليها إلا هذه النظرة الموضوعية، التي تردّ الظواهر إلى أصولها وأسبابها، ولكنها تُصبح شيئاً ذا خطرٍ وقيمة فنية، حين ينظر إليها الإنسان نظرته الذاتية، فيجد فيها ما يُثير عواطفه المختلفة وأهواءه المتباينة. والكاتب لا يُجرّد الكائنات لنفسه وحدها، وإنما يريد أن يُحسّ غيره مثل ما يُحسّ، وأن يرى غيره مثل ما يرى. وتجريد الإنسان للعالَم عمل حُرّ يأتيه الإنسان عن إرادة وعمد، وإشراك الآخرين في النظر إلى هذا العالَم المُجرّد عملٌ حُرّ أيضاً يأتيه الإنسان عن إرادة وعمد. فالإنتاج الأدبي مظهرٌ من مظاهر الحُريّة، أما القارئ فهو يستجيب لدعوة الكاتب، لأن كتابة الكاتب ليست إلا ادّعاء أنه يُحسّ ويشعر، ويدعو غيره إلى مشاركته في هذا الإحساس والشعور.