العنوان مقتبس من عبارة رائعة الوصف للترجمة، للكاتب الجزائري عمارة لخوص، ولكنها رحلة عاصفة في الغالب، لا تخلو من تمايل السفينة يمنة ويسرة، وهيجان البحر وزمجرة الأمواج! فللترجمة صعوبات تواجه القائمين عليها في كلّ عصور التاريخ، ولكنهم مع هذا لم ينصرفوا عنها، بل ظلّوا يُتابعون جهودهم، جيلاً بعد جيل، وعصراً بعد عصر، فيُوفّقون حيناً، ويُخفِقون أحياناً. وقد عرفت شعوب الحضارات البشرية القديمة أهميّة الترجمة وشِدّة حاجتهم إليها، ولمسوا مع ذلك صعوبة الانتقال بأفكار الصين وحِكمتهم مثلاً إلى بيئة اليونان، أو إلى بيئة المصريين القُدماء، أو العكس. وذلك لأن اللّغات الصينية واليونانية والمصرية القديمة تنتمي إلى فصائل لُغوية متباينة. حيث تبيّن للمُفكّرين في الأُمم القديمة، أن تبادل الثقافة تحول دونه حصون منيعة؛ وتلك هي التي نُسمّيها باللّغات، ذلك لأن أداة التفكير تختلف من لُغة لأُخرى. واستطاع دارسو اللّغات أن يُقسّموها فصائل وأُسَر، وتتضمّن كلّ منها عدداً من اللّغات، يمكن التنقّل بينها دون عناء كبير. ثم جاء العرب فحاولوا نقل فلسفة اليونان وعلومهم إلى اللّغة العربية، فصادفوا مشقّة وعُسراً. وكان أحد عُلماء العربية من القُدماء، وهو القاضي النحوي «أبو سعيد السيرافي»، يتشكّك في صحّة هذا النقل، ويقول لأحد المُترجمين المشهورين، وهو «يونس بن متّى»، في مُناظرة رواها «أبو حيّان التوحيدي» في رسالته: «.. على أن هناك سِرّاً ما، علق بك، ولا أسفر لعقلك، وهو أن تعلم أن لُغة من اللّغات لا تُطابق لُغة أُخرى من جميع جهاتها بحدود صفاتها، في أسمائها وأفعالها، وصروفها وتأليفها، وتقديمها وتأخيرها، واستعارتها وتحقيقها..». وقد زاد شيخ البلاغيين «عبدالقادر الجرجاني» مشاكل الترجمة دراسة وتفصيلاً، منذ أكثر من تسعة قرون، في كتابه «أسرار البلاغة»، فكان يقول: «إن العرب تعرف أجزاء الجسم في الإنسان والحيوان معرفة تامّة، وقد وضعتْ لكلّ جزء منها لفظاً خاصّاً؛ «فالشفة» في الإنسان هي «المشفر» للبعير، و»الجحفلة» للفرَس. وهذه فروق ربّما وُجدتْ في غير لُغة العرب، وربّما لم توجد». ويعتبر «الجرجاني» هذه الاستعمالات، من الاستعارات غير المُفيدة، التي لا تعدو أن تكون توسّعاً في اللّغة، ولذلك لا يصِحّ أن تُنقل كما هي في لُغة أُخرى. أما في الاستعارات المُفيدة، كأن تصِف رجُلاً بأنه أسد، أو طائرة بأنها عقاب أو نسر، فيرى وجوب النقل باللّفظ، ومُراعاة الاستعارة. ويُقرّر «الجرجاني» أن نقل الاستعارة غير المُفيدة بلفظها، يبعث على السخرية والضحك، وأن نقل الاستعارة المفيدة بمعناها، فيه حرمان من نُكتة بلاغية. واللّغة العربية من اللّغات التي عُنيتْ بموسيقى ألفاظها وعباراتها، ولها ممّا يُسمّى بالمُحسّنات اللّفظية فنونٌ، وضع لها المتأخّرون من دارسيّ البلاغة قواعد يُطلقون عليها «عِلم البديع»، ومن أشهر فنونه ما يُسمّى «بالجِناس»، كقول رجُل للمأمون يتظلّم من عاملٍ له: «والله يا أمير المؤمنين، ما ترك لنا فِضّة إلا فَضّها، ولا ذهَباً إلا ذهب به، ولا غلّة إلا غلّها، ولا ضيعة إلا أضاعها، ولا عرضاً إلا عرض له، ولا ماشية إلا امتشّها، ولا جليلاً إلا أجلاه، ولا دقيقاً إلا دقّه..»! فكيف السبيل إلى ترجمة مثل هذا الكلام؟ على أن ترجمة الآداب بصفة عامّة ليست بمستحيلة، أو فوق طاقة البشر، ولكنها تحتاج إلى الجهد والمُثابرة، وتتوقّف إلى حدّ كبير على السيطرة والقوّة في اللّغتين، ذلك لأن من المعاني، ما لا يزال في «بطن الشاعر» كما يقولون، ولا نعثر عليه إلا بالجهد. فإذا كان هذا هو الشأن في النصوص الأدبية، التي هي من صُنع الشُعراء والكُتّاب، وهُم ليسوا إلا طبقة موهوبة من الناس، فماذا يكون موقف المترجم إزاء النصوص الدينية المُقدّسة، التي لا يقف أثرها عند عاطفة عابرة، أو انفعال وقتيّ، بل هي تُسيطر على العقول والقلوب، وتُحاط بهالةٍ من القداسة والطُهر تسمو بها فوق مستوى الإنسان؟