في القصة المشهورة عن الكندي في التعليق على قول أبي تمام: أنه قال: ما زدت على أن شبهته -يقصد ابن المعتصم- بأجلاف العرب في القصة المعروفة. والأمر المهم عندي أن أبا تمام وافق الكندي على ما ذهب إليه في أن الصفة في المشبه أظهر منها في المشبه به، واعتذر عن ذلك، واحتج لفعله بالقرآن، وهي حجة أدلى بها من قبله ابن قيس الرقيات، لكنه لم يبين السبب الفني الذي جعله يستدعي هذه الأسماء باتخاذها مقياساً في الإقدام والسماحة والحلم والذكاء يقيس فيها ابن أمير المؤمنين. ومع أن البلاغيين يسمون هذا النوع من التشبيه بالتشبيه المقلوب كالبيت المعروف: فالأصل أن صدر الحليم يشبه بالفلاة لكنه قلب، فإن أبا تمام لم يكن يقصد هذا النوع من التشبيه، وإنما كان يقصده على الحقيقة على مذهبه في الخروج عن المألوف، وليس الخروج عن المألوف هنا استعمال التشبيه المقلوب على غير ما يستعمل عليه عادة (أو كما يقال في البديع)، ومع أن الكندي أصلاً لم يكن ناقداً ولا من المعدودين في أهل الأدب أو اللغة وإنما كان فيلسوفاً مترجماً عن اليونان، فإن سؤاله أو شغبه على أبي تمام ذو قيمة في البحث في الصلة بين المشبه والمشبه به، والسبب الدافع للمتكلم أن يربط بين الكلمتين في التشبيه أو يتجافى عن لفظة إلى الأخرى في الاستعارة أو كما قلنا من قبل عن الحقيقة إلى المجاز. من المهم هنا أن نفرق بين مذهبين في تفسير الاستعارة: المذهب الأول هو المذهب القديم وهو أنها ظاهرة لغوية تقوم على أن المتكلم سواء كان شاعراً أو غيره يستعمل لفظة في غير ما وضعت له يسمونه المجاز أو الاستعارة، ويسميه الأسلوبيون المعاصرون «انزياحاً» أو «عدولاً». والمذهب الثاني مذهب الرومانسيين وهو أن الشاعر أو الكاتب يعبر عن الأشياء كما يراها في عقله الذي تتبدل صورتها فيه بسبب الخيال الذي أثاره تبدل مشاعره وتقلبها، فإذا ذكر أن الفتاة الحسناء شمس، فهو يراها فعلاً شمساً بسبب مشاعره المتلونة، وإذا رأى رجلاً على صورة أسد فهو يراه أسداً حقيقة لشدة ما أصابه من الفزع والخوف، و في هذا المذهب ليس هناك سوى الحقيقة لكنها حقيقة متلونة على غير ما ترمز له في الواقع المادي، وإن كان ذلك لا يغير أن اللغة قد استعملت فيما وضعت له، وأن الاختلاف في الرؤية، وفي تفسير الظاهرة وليست في الأداة إن صح التعبير. بينما ينظر المذهب الأول إلى الاستعارة كما تبدو للمتلقي الذي يراها تغييراً في اللغة أو الأداة، ومن هنا قد يجدها أدق على التعبير عن الظاهرة وأجود أو أقل وأضعف، وإلى هذا الخلاف يعود كثير من الجدل الذي قيل عن استعارات أبي تمام، بل ربما يذهب الجدل إلى أبعد من ذلك حين تتحول الاستعارات إلى عائق بين النص والمتلقي يقف دون إدراك المعنى، وهو ما يسميه النقاد ب»الغموض» وتختلف درجاته بين محمود ومذموم ومستوياته بناء على المذهب الأدبي الذي ينتمي إليه النص. غير أن الذي يهمني هنا أنه (الغموض) يبين حالة من حالات الاستعارة يكثر الذين يعدونها حائلاً دون النص، وأداة لتحويل البيان إلى طلاسم يستعان على فهمها بالتأويلات المتنوعة، ولا يقل عنها في رأيي تكرار الاستعارات القديمة، واجترارها في القول حتى يشعر المتلقي أن الكلام لا يعدو أن يكون أعادة صياغة استعارات محفوظة في كتب الأدب ودواوين الشعر من قرون لا معنى لها ولا تعبر عما يراه المتكلم أو يحس به. وهنا يصبح مدار الأمر في الاستعارة على نوع معين يجد فيها المتلقي إثارة وإمتاعاً، وملحقاً دلالياً يضاف إلى ما تمنحه اللفظة في بعدها المعجمي، ويبقى السؤال عما يدفع الشاعر أو المتكلم إلى هذا العدول عن اللفظ الأصلي، واستعارة لفظ آخر للتعبير عما يراه أمامه أو يحسه في نفسه؛ أهو الرغبة في التجديد اللغوي، أم الرغبة في إثارة المتلقي وإدهاشه بالتعبير عن شيء بشيء غير مألوف أم الرغبة في توصيف ما في نفسه وتبيين ما يراه بصورة تجعله لا يتكتفي بوصفه على الحقيقة أو لا يرى ذلك كافياً فيفزع إلى الأدوات الأخرى كالتشبيه والاستعارة عله يجد فيها ما يمكنه من غايته تلك. سؤال نقدي ملح لكنه لا يبدو ممكن الجواب ما دامت الاستعارة قائمة في حديث الناس ما تتابع الجديدان، وما دام جم غفير من النقاد يرونها استعارة للفظ في غير ما وضع له.