العام الحالي الذي بدأ بظروف مواتية للاقتصاد العالمي، مع تراجع اختناقات سلاسل الإمداد وتراجع التضخم وتلاشى حالة الكآبة المرتبطة بجائحة فيروس كورونا المستجد، ينتهي وفي الأفق تتجمع سحب قوية فوق صناعة النقل البحري وتجارة التجزئة التي تعتمد عليها في ظل أزمتي أكبر ممرين ملاحيين تجاريين في العالم. ورغم أن أسباب الأزمتين مختلفة تماما، فإن التداعيات على الاقتصاد العالمي واحدة في شدتها. ففي باب المندب الذي يربط بين المحيط الهنديوالبحر الأحمر، تهاجم ميليشيا الحوثي اليمنية السفن التجارية المتجهة إلى إسرائيل عبر البحر الأحمر دعما للفلسطينيين في حربهم مع إسرائيل، هذه الهجمات أدت إلى تحويل السفن التجارية طريقها من البحر الأحمر وقناة السويس في مصر، إلى طريق رأس الرجاء الصالح غبر أفريقيا والذي كان يستخدم حتى منتصف القرن التاسع عشر عند افتتاح قناة السويس. وعلى بعد 7200 كيلو متر إلى الغرب من قناة السويس، تواجه حركة الملاحة البحرية العالمية أزمة أخرى في قناة بنمابأمريكا الوسطى، ولكن نتيجة موجة الجفاف التي تضرب المنطقة، وأدت إلى انخفاض منسوب المياه في القناة، وبالتالي انخفاض كبير في عدد السفن التي يمكنها المرور عبرها. وفي تحقيق نشرته وكالة بلومبرج للأنباء، قال الكاتب برندان موراي إن حوالي 180 سفينة حاويات غيرت مسارها بعيدا عن البحر الأحمر وقناة السويس، لتدور حول أفريقيا أو توقفت تماما عن الحركة انتظارا لأي تعليمات جديدة بهدف تجنب هجمات الحوثيين، بحسب بيانات شركة مراقبة حركة الشحن البحري فليكس بورت يوم الأربعاء الماضي. والمؤكد أن مئات السفن الأخرى ستحذو حذوها إذا لم تتمكن الدول الغربية من تأمين حركة الملاحة في مضيق باب المندب والبحر الأحمر والتي تعهد الحوثيون باستمرار مهاجمة السفن المتجهة إلى إسرئيل عبر المضيق حتى يتم رفع الحصار الإسرائيلي عن قطاع غزة الفلسطيني. في الوقت نفسه حولت الكثير من السفن التجارية طريقها بعيدا عن قناة بنما منذ أسابيع بسبب انخفاض مناسيب المياه. هذه الأزمات أعادت حركة النقل البحري في العالم إلى القرن الثامن عشر، على حد وصف كاتب بلومبرج، وهو ما يعني مشكلات هائلة للاقتصاد العالمي نتيجة ارتفاع تكاليف النقل، وتأخر وصول البضائع أسابيع إضافية. كما سيؤثر هذا الاضطراب على نشاط شركات الخدمات اللوجستية البرية، التي يرتبط عملها بوجود جداول منضبطة للنقل البحري. وبحسب مؤشر ديروري العالمي لأسعار نقل الحاويات، فإن تكلفة نقل السلع في الحاوية القياسية مقاس 40 قدم مكعبة، من آسيا إلى شمال أوروبا ارتفعت خلال الأسبوع الماضي بنسبة 16 % وسترتفع خلال الشهر الحالي ككل بنسبة 41 %. كما قفزت فواتير وقود سفن الشحن، في حين قالت شركات نفط وناقلات كبرى إنها ستتجنب المرور من جنوبالبحر الأحمر. ويعتبر توقيت الأزمة الحالية في كل من البحر الأحمر وقناة بنما، عنصرا إضافية لزيادة حدة التداعيات، حيث جاءت في أحد أكثر أوقات السنة طلبا على الصادرات من الصين، سواء لإعادة تكوين مخزونات متاجر التجزئة بعد موسم تسوق عيد الميلاد ورأس السنة، وقبل أن تغلق المصانع الصينية أبوابها بسبب العطلة الطويلة لرأس السنة القمرية الصينية في فبراير المقبل. وتدرس شركات النقل البحري خياراتها بما في ذلك العودة إلى طرق القرن الثامن عشر، قبل شق قناتي بنماوالسويس واللتين قلصتا المسافة بين آسيا وكل من أمريكا الشمالية وأوروبا. ونقلت بلومبرج عن مسؤول في شركة خدمات لوجيستية كبرى قوله، إن أصحاب الشحنات بدأوا يطالبون بدراسة كل الخيارات المتاحة لتجنب المرور من قناتي السويسوبنما، بما في ذلك استخدام الشحن الجوي، رغم ارتفاع أسعاره بشدة مؤخرا. وطبقا لرسالة بريد إلكتروني تم إرسالها إلى الموردين واطلعت عليها بلومبرج، تعتزم شركة أبركرومبي أند فيتش لمتاجر الملابس اللجوء إلى الشحن الجوي لتجنب الاضطربات في حركة الملاحة البحرية. وتقول الشركة إن الخطوط الملاحية عبر البحر الأحمر كانت مهمة جدا بالنسبة لعملياتها لآن كل شحناتها التي تأتي من الهند وسريلانكا وبنجلاديش، تمر عبر هذا الطريق لتصل إلى الولاياتالمتحدة. كما حذرت شركة متاجر الأثاث السويدية آيكيا من حدوث نقص في بعض المنتجات في متاجرها بسبب مشكلات الملاحة في البحر الأحمر. في الوقت نفسه فإن السفن التي تدور حول رأس الرجاء الصالح تحتاج 60 يوما للوصول من الصين إلى أوروبا، في حين تحتاج 40 يوما فقط في حال استخدام قناة السويس، بحسب إريك مارتن نيوفل النائب التنفيذي لشركة الشحن جيوديز، الذي أضاف أن التكلفة تزيد بمقدار 4 أو 5 مرات عند الدوران حول أفريقيا بدلا من عبور قناة السويس. كما أن تكلفة الشحن الجوي أعلى كثيرا من تكلفة النقل البحري للسلع. وبحسب تحقيق بلومبرج، فإنه لا يبدو أن هناك حلا خلال هذه الأيام لأزمتي البحر الأحمر وقناة بنما، فالحوثيون تعهدوا باستمرار استهداف السفن المتجهة إلى إسرائيل رغم قيادة الولاياتالمتحدة لتحالف دولي يهدف إلى حماية حركة السفن التجارية في البحر الأحمر تحت اسم "حارس الازدهار"، لآن شركات الملاحة ستفضل الانتظار لرؤية مدى فاعلية نشر السفن الحربية لدول التحالف في حماية حركة السفن التجارية في المنطقة قبل أن تعود للعبور من البحر الأحمر. أما أزمة قناة بنما المرتبطة بالطقس، فمن غير المحتمل أن تتحسن الأمور قبل نهاية شباط / فبراير على الأقل. وأخيرا يقول راهول كابور، رئيس إدارة أبحاث وتحليلات النقل البحري في مؤسسة إس أند بي جلوبال للاستشارات إن التكلفة الاقتصادية، لأزمتي باب المندب وقناة بنما ستتزيد حتى تعود السفن للعبور من البحر الأحمر وقناة السويس وقناة بنما بشكل طبيعي، في حين يمكن أن يحد ضعف الطلب الاستهلاكي في العالم حاليا، من نسب الزيادة في أسعار الشحن البحري. وفي مقابلة مع تلفزيون بلومبرج قال كابور "خلل السنوات القليلة الماضية رأينا أن التوترات الجيوسياسية والصراعات أصبحت خطرا متزايدا يهدد التجارة العالمية". .