لم يكن 2023 عاماً عادياً بالنسبة لأسواق الديون العالمية، وبخاصة على مستوى الديون الحكومية أو السيادية، التي تفاقمت عند مستوى قياسي بلغ 97.1 تريليون دولار، بزيادة 40 % عن عام 2020، إذ لا يزال الإنفاق الحكومي متأثراً بالتدابير الاستثنائية التي اتخذت عقب الجائحة من أجل وقف تدهور سوق العمل، الذي تأثر بفقدان ملايين الوظائف، والتصدي لموجة إفلاس الشركات، وللمقارنة، فقد وصل حجم الدين الحكومي العالمي في عام 2022، إلى 92 تريليون دولار، وهذا يعني أن العام الحالي أضاف 5 تريليونات دولار لتلال الديون الحكومية، وقد قفزت هذه الديون لأكثر من أربعة أضعاف منذ عام 2000، وهو ما يتجاوز بوضوح الناتج المحلي الإجمالي العالمي، الذي تضاعف ثلاث مرات فقط خلال نفس الفترة، حيث وصل ناتج الاقتصاد العالمي إلى 105 تريليونات دولار في عام 2023، وهذا الرقم أعلى بمقدار 5 تريليونات دولار عن العام الماضي. نتيجة للأزمات المتراكمة، مثل الحروب والمخاطر الجيوسياسية والتداعيات الاقتصادية الرهيبة لتفشي الجائحة، إضافة إلى احتياجات تمويل مشاريع التنمية الاقتصادية، فقد ارتفع عدد الدول التي تعاني مستويات حادة من الديون السيادية من 22 دولة فقط في عام 2011، إلى 59 دولة في عام 2023، حيث تشكل الولاياتالمتحدة أكبر اقتصاد عالمي، أكثر من ثلث إجمالي الدين العالمي مع 33.2 تريليون دولار، وتمثل تكلفة خدمة الدين 20 % من الإنفاق الفيدرالي، ومن المتوقع أن تصل خدمة الدين إلى تريليون دولار بحلول عام 2028، وهو ما يتجاوز إجمالي الإنفاق على الدفاع، أما الصين، ثاني أكبر اقتصاد عالمي، فقد قفزت ديونها الحكومية إلى 14.6 تريليون دولار، مشكلة 15 % من إجمالي الدين العالمي، وبذلك تصل نسبة الدين إلى الناتج الصيني الإجمالي 83 %، أما اليابان، ثالث أكبر اقتصاد في العالم، فتكافح من أجل تقليص نهمها الهائل في الاقتراض، مع 10.7 تريليون دولار، مشكلة بذلك 11.1 % من إجمالي الدين العالمي، حيث تصل نسبة الدين إلى الناتج المحلي 255 %، والملاحظ، أن ديون اليابان تخطت 100 % من ناتجها المحلي على مدى العقدين الماضيين، بفعل الشيخوخة ونفقات الضمان الاجتماعي. خريطة توزيع الديون عند النظر إلى خريطة توزيع الديون، سنجد أميركا الشمالية في الصدارة مع 36.4 تريليون دولار، مستحوذة على 37.5 من إجمالي الديون الحكومية حول العالم، فيما تصل نسبة الدين إلى الناتج المحلي 117.6 %، أما منطقة آسيا والمحيط الهادئ فتأتي في المرتبة الثانية، عند 34.2 تريليون دولار، حيث تشكل ديونها 35.3 % من إجمالي ديون العالم، وبذلك تصل نسبة الدين الحكومي في آسيا والمحيط الهادئ إلى الناتج المحلي الإجمالي 92.5 %، ثم أوروبا في المرتبة الثالثة بديون تلامس 20.1 تريليون دولار، مشكلة 20.7 من إجمالي الديون العالمية، فيما تصل نسبة الدين الأوروبي إلى الناتج المحلي 79.1 %، أما ديون أميركا الجنوبية، فتأتي في المرتبة الرابعة مع 3.1 تريليونات دولار، مشكلة 3.3 من إجمالي الديون العالمية، حيث تصل نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 77.2 %، فيما تقبع ديون القارة الإفريقية في المرتبة الخامسة، عند 1.8 تريليون دولار، مشكلة 1.9 % من إجمالي ديون العالم، حيث تصل نسبة الدين إلى الناتج المحلي 65.2 %، أما باقي الدول خارج المناطق الأساسية فتصل ديونها إلى 1.2 تريليون دولار، وهذه تشكل 1.3 % من إجمالي الديون العالمية، حيث تصل نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 31.4 %. من الواضح أن أميركا الشمالية، أكبر قارة مديونة في العالم، ستظل لفترات أطول مكبلة بأغلال الديون، وكما تضخمت الديون الأميركية، تضخمت الديون الكندية، حيث تحتل المرتبة العاشرة عالمياً عند 2.2 تريليون دولار، مشكلة 2.3 من إجمالي الديون العالمية، إذ تصل نسبة الدين الكندي إلى الناتج المحلي الإجمالي 106.4 %، أما على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي، الغنية بالنفط، والتي تقترض في الغالب من أجل تنمية المشاريع المستدامة، وتنويع مصادر الدخل والاستثمارات بعيداً عن النفط، فسنجد أن السعودية لديها ديوناً بقيمة 257.7 مليار دولار، حيث تصل نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 24.1 %، أما الإمارات فلديها ديوناً حكومية بمبلغ 149.7 مليار دولار، حيث تصل نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 29.4 %، بينما تصل ديون سلطنة عمان إلى 41.4 مليار دولار، حيث تصل نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 38.2 %، أما ديون قطر فتلامس 97.5 مليار دولار، إذ تصل نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 41.4 %، فيما تبلغ ديون البحرين 54.5 مليار دولار، إذ تصل نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 121.2 %، فيما تصل ديون الكويت إلى 5.4 مليارات دولار، حيث تصل نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 3.4 %. مع اتجاه معدلات التضخم للانخفاض، بدأت بعض البنوك المركزية في خفض أسعار الفائدة، وبشكل عام، من المتوقع أن تظل مستويات الدين الحكومية مرتفعة، وبخاصة في القارة الإفريقية، حيث يعتبر 40 % من إجمالي دينها العام مقوماً بالعملات الأجنبية، ما يجعلها عرضة لتقلبات أسعار الصرف، بالإضافة إلى أن أسعار الفائدة تظل أعلى في البنوك الإفريقية مقارنة بالاقتصادات المتقدمة، مما يزيد من تكاليف خدمة الديون، وعلى سبيل المثال، فإن مصر، الأعلى ديوناً في القارة السمراء، مع 369.3 مليار دولار، حيث تصل نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 92.7 %، وهذا يعني أن القاهرة تواجه تكاليف اقتراض باهظة، إذ يذهب 40 % من الإيرادات الحكومية إلى سداد الديون، ومثل مصر، تواجه العديد من الاقتصادات الناشئة ضغوطاً، فعلى وقع أزمة اقتصادية طاحنة، تتخلف لبنان عن السداد منذ عام 2020، كما تخلفت غانا عن سداد غالبية ديونها الخارجية في عام 2022، ومن المتوقع أن يتجاوز الدين الحكومي العالمي 100 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2028. والواقع، أن الدول النامية تدفع مقابل ديونها أكثر بكثير مما تدفعه الدول المتقدمة، بسبب زيادة أسعار الفائدة، وتقلبات أسعار الصرف، فالدول الإفريقية على سبيل المثال، تقترض في المتوسط بمعدلات فائدة أعلى أربع مرات من نظيراتها في الولاياتالمتحدة، وأعلى بثماني مرات من نظيراتها في ألمانيا، وهذا يجعل من الصعب على الدول النامية تمويل استثمارات تنموية مهمة، الأمر الذي يقوض قدرتها على سداد الديون، وتحقيق التنمية المستدامة، بالإضافة لذلك، فقد انكشفت الكثير من الدول النامية على الدائنين من القطاع الخاص، الأمر الذي جعل الاقتراض مكلفاً، فيما تصبح إعادة هيكلة الديون عملية معقدة للغاية، وذلك لأن الدائنون من القطاع الخاص، مثل حاملي السندات والبنوك والمقرضين الآخرين، يقدمون التمويل بشروط تجارية صعبة للدول النامية، والملاحظ أنه خلال السنوات العشر الماضية، ارتفعت نسبة الديون الحكومية الخارجية المستحقة للدائنين من القطاع الخاص في جميع دول العالم، وهذا الارتفاع يقدر بنحو 62 % من إجمالي الدين العام الخارجي للدول النامية في 2023، مما يضع شكوكاً كبيرة حول قدرة هذه الدول على الالتزام بالسداد في المواعيد المستحقة، حيث تضيق الخيارات المستحيلة فإما خدمة الدين، أو خدمة شعوبها.