قبل أشهر قليلة، أصدر المعهد الملكي للشؤون الدولية "تشاتام هاوس" تقريرا يؤكد على الإجماع المتشدد بشأن الحرب الروسية الأوكرانية: لا تسوية مع موسكو، بل يجب هزيمتها بشدة ومعاقبتها. الآن يبدو أن التفاؤل بالانتصار في الحرب الذي ساد وسائل الإعلام الغربية طوال عام 2022، قد تلاشى. ويناقش عدد متزايد احتمالات وقف إطلاق النار، ويتعرض الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي نفسه لضغوط لبدء مفاوضات مع روسيا. وقال ماثيو بلاكبيرن الباحث البارز في مجموعة أبحاث روسيا وآسيا والتجارة الدولية بالمعهد النرويجي للشؤون الدولية في تقرير نشرته مجلة "ناشونال انتريست" الأميركية إن نفس الخبراء الذين توقعوا بجرأة هزيمة روسيا التي وصفوها بالضعيفة والتي لا تتمتع بالكفاءة يغيرون موقفهم بحصافة. ففي الوقت الحالي، تسود مزاعم بأن الحرب وصلت إلى طريق مسدود وحالة جمود ولا يستطيع أي من الطرفين الفوز فيها. ولهذا السبب، فقد حان الوقت لتجميد الصراع بشكل مماثل لإنهاء الحرب الكورية عن طريق التفاوض. وقد تم اقتراح هذه الفكرة لأول مرة في مايو 2023 في مقال بصحيفة بوليتيكو. والآن، بعد فشل الهجوم المضاد الأوكراني، تتم مناقشة تجميد الصراع مجددا. لكن هل هذا موقف واقعي؟ قال بلاكبيرن إن شروط تجميد الصراع وإنهاء الحرب الكورية لا تنطبق حاليا على الحرب في أوكرانيا. واعتبر أنه من الخطأ وصف حالة الحرب بأنها في جمود أو طريق مسدود والاعتماد في ذلك فقط على ملاحظة أن هناك القليل من الأراضي التي تخضع لسيطرة متغيرة. ففي حرب الاستنزاف، يكون الهدف هو إنهاك العدو وإجباره على الموافقة على الشروط. والأراضي التي تتم السيطرة عليها بعيدة كل البعد عن المؤشر الرئيسي للنجاح. ويمكن أيضا قياس الإنجاز العسكري بأعداد الخسائر البشرية وكمية المعدات المدمرة. وفي هذا الصدد، تخلت أوكرانيا للتو عن هجوم فاشل تسبب في تكبدها خسائر فادحة في القوى البشرية والمعدات. وقال إن أعداد القوات الأوكرانية تتراجع، ويفكر زيلينسكي في تعبئة جديدة سوف تؤدي بالتأكيد إلى إرهاق القدرة الاقتصادية والروح المعنوية للبلاد. ويواجه المدنيون في أوكرانيا شتاء قاسيا، حيث من المؤكد أن تستهدف روسيا خلاله نظام الطاقة مرة أخرى. بالإضافة إلى ذلك، يكافح الداعمون الغربيون لأوكرانيا لتقديم إمدادات الذخيرة المنتظمة وغيرها من المعدات والأسلحة الأخرى مثل الطائرات المسيرة والعربات المدرعة. ومن المرجح أن يضطرب الدعم الأميركي بسبب انهيار الدعم الحزبي للتمويل والمطالب الجديدة في الشرق الأوسط. من ناحية أخرى، فإن الإنتاج العسكري الروسي من المدفعية والطائرات المسيرة، التي تشكل أهم معدات هذه الحرب، ليس كافيا فحسب، وإنما يتم تكملته بمشتريات الطائرات المسيرة الإيرانية والقذائف الكورية الشمالية. وتبلغ الخسائر الروسية، التي غالبا ما يتم المبالغة فيها إلى حد كبير، 35780 جنديا على الأقل، وفقاً لموقع "ميديازونا" الإخباري المستقل، الذي تتبع الحصيلة بناء على بيانات من مصادر مفتوحة. وقد أضافت حملات التجنيد الجديدة نحو 335 ألف متطوع إلى الجيش الروسي منذ يناير 2023، مما قلل الحاجة إلى عملية تعبئة ثانية. وفي حين أنه من المتوقع أن يصل تعداد الجيش الروسي إلى 750 ألف جندي، فإن الاقتصاد الروسي ينمو، مع عدم وجود مؤشرات على استياء النخبة أو المواطنين داخل البلاد. وتذكر العملية الحالية في أندرييفكا بمعركة باخموت، وهو نصر روسي لم يحظ باهتمام كبير في الغرب ولكنه يعد نموذجا لنهج روسيا البطيء، ولكنه ناجح في حرب الاستنزاف. ورأى بلاكبيرن أن هذه الصورة بعيدة كل البعد عن الجمود. في الواقع، ربما تكون هناك حاجة قريبا إلى مستوى جديد من التدخل من حلف شمال الأطلسي (الناتو) لتأمين حالة الجمود وتجنب هزيمة أوكرانيا. الآن، لا أحد يعلم إلى متى ستستطيع أوكرانيا الصمود وما هي إجراءات الناتو التي يمكن أن تساعدها. وفي ظل هذه الديناميكيات، لا توجد أي حوافز على الإطلاق لروسيا لكي توافق على وقف إطلاق النار والذي سيؤدي فقط إلى تقويض استراتيجيتها العسكرية بأكملها ويمنح أوكرانيا الوقت للتعافي وإعداد نفسها للقتال في وقت ما في المستقبل. وأضاف بلاكبيرن أن القوى العظمى لم تتفق على إنهاء الحرب. ولم تعد أوكرانيا تحارب وكلاء عن روسيا، كما كانت تفعل في الفترة بين عامي 2014 و2022، لكنها تقاتل روسيا مباشرة. ومن غير الواضح ما إذا كانت الصين يمكن أن تقنع روسيا بالتوصل إلى اتفاق، أو حتى ما إذا كان هذا في مصلحتها. وتبدو روسيا مستعدة للقتال لسنوات إلى أن تصل إلى خط مباشر مع واشنطن أو تحقق انهيار الدولة الأوكرانية. وأشار بلاكبيرن إلى أن هناك نقطة أخرى شائكة وهي ما إذا كان الغرب قادرا على تقديم ضمانة أمنية مقبولة لروسيا. فمن ناحية، عارضت موسكو بشدة عضوية أوكرانيا في حلف الناتو، وكان هدفها الرئيسي في الحرب هو "نزع سلاح" أوكرانيا، وهو ما يعني عدم نشر أي قوات تابعة لحلف الناتو أو أسلحة ثقيلة في البلاد. ومن ناحية أخرى، كانت موسكو مستعدة للموافقة على حياد أوكرانيا إلى جانب الحصول على "ضمانات أمنية" من الناتو في مفاوضات مارس 2022. وعلى أي حال، لن توافق روسيا، التي لها اليد العليا عسكريا، مطلقا على خطة كييف للسلام التي تتكون من عشر نقاط. وسوف تنتظر موسكو أن تقوم واشنطن بحث أوكرانيا على اتخاذ موقف مختلف يقبل شكلا من أشكال نزع السلاح والحياد، وهي نتيجة قد تؤجلها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية. وقد اعترف الجنرال فاليري زالوجني، قائد القوات الأوكرانية، أنه كلما استمرت الحرب كلما كان هذا أفضل لروسيا. ويتسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالواقعية، لكنه لن يخون مصالحه الأساسية عندما تكون الديناميكيات العسكرية في صالح روسيا. ولا يوجد ما يدعو إلى توقع أن يدافع أي شخص في النظام السياسي الروسي عن موقف مختلف بشكل جذري. وأي تسوية في أوكرانيا تنتهي بدمجها في حلف الناتو أو حصولها على أسلحة من الحلف غير مقبولة تماما للدولة الأمنية الروسية والجيش الروسي، وكذلك بالنسبة لعشرات الملايين داخل روسيا الذين يؤيدون الحرب بقوة. واختتم بلاكبيرن تقريره بالقول إنه يجب الحذر من تعليقات التراخي والتقاعس بشأن تجميد الصراع. الحرب ليست في حالة جمود، ومن المرجح أن يكون هناك المزيد من التصعيد. ويشير درس الحرب الكورية إلى أن بدء المحادثات الآن مفيد حتى إذا كان هناك احتمال ضعيف للتوصل إلى اتفاق بشكل فوري، وهو نهج "القتال والتحدث" الذي استمر عامين إلى أن تم تجميد الصراع في كوريا. وفي حين أن العديد من الأصوات ستدين هذه المفاوضات باعتبارها مهادنة أو خيانة، هناك حاجة إلى أن تبدأ هذه العملية لتوضيح النقاط الصعبة وتوضيح كيفية تحقيق أهداف كل جانب. ويعد التوصل إلى وقف إطلاق نار هش ومعيب- وخاصة مثل ذلك الذي تم التوصل إليه في كوريا وظل صامدا لمدة سبعين عاما - أفضل من زيادة زعزعة الاستقرار في شرق أوروبا والمزيد من الدمار والموت في أوكرانيا.