عاد إلى قريته السروية، المنازل تلبست بالإسمنت المطلية بدهانات ذات ألوان متعددة، منارة ملمومة كمرسم رصاص يشق طولها الفارع السماء، دكاكين أرففها المعدنية مليئة بالمعلبات والبهارات وأنواع الحلويات والبسكوت وألعاب الأطفال، حاول الغريب استرجاع ما بقي في الذاكرة، أحجار منزوعة من بطن جبل صخري، وجذوع أشجار اقتصّت من غابة العرعر، ونقوش رسمها نجارون ماهرون بإتقان في أبواب ونوافذ وزفر وطليت بالقطران الأسود، وسوق تمتلىء باحته بالمتسوقين في يوم مشهود، وحقول خضراء على مرمى النظر ترقص في جنباتها سنابل القمح في مواسم وأكواز الذرة في مواسم أخرى، ووادٍ ينسكب ماؤه كالفضة في خلجان ضيقة بين الجبال، لم يقطع حبل ذكرياته المنثالة سوى سؤال صارخ وجهه ابن أخ: «يا عم نشمي واش أحسن الديرة وإلا فلسطين؟». ذلك السؤال اللاهب كمن وضعه في أرجوحة تهوي نحو مكان سحيق.. جال ببصره في أرجاء المكان، وقال في نفسه: فلسطين التي ارتحلت إليها وتجرعت مرارة الغربة، نعم ارتحلت إليها بمحض إرادتي مع نفر من سكان السراة بعد أن خَلِيت السماء من السحب ولم يبق في الآبار ما يملأ الدلو، والشمس شوت الأعشاب ومعها قلوب الأهالي الذين أكلوا كل ما حفظوه في خزائنهم من حنطة وشعير، وامتدت مخالب الجوع ليأكلوا كل ما يقع أمام أبصارهم، البيوت تنعى الجوعى، والمقابر تصافح كل يوم من تيبست أمعاؤهم، وغارت عيونهم، وجفت جلودهم. نعم يابن أخ ارتحلنا ومشينا قاطعين الجبال والفيافي والشعاب والرمال، أكلنا يباس النبات مررنا بالكثير من المدن والأمصار، حتى وصلنا إلى ديار كانت جنة خضراء زيتونها يملأ الأغصان، وثمارها تزهي الأنظار، تربتها ذهب، عملنا مساعدي مزارعين، سكنا حجرات صغيرة لا يهمنا سوى ملأ بطوننا، وبعد سنوات تشكلت حدود الدول ولا يسمح بالرحيل ومغادرة المكان إلا من يمتلك بطاقة أو جواز سفر، وبقينا رهائن الغربة وحبيسي المزارع، لا وجوه نعرفها، ولا رسائل تصل لنستأنس بكلماتها. أخذ الرجل التسعيني جسده المتعب ليسير بوهن في طرقات القرية باحثا عن أنيس ممن في عمره ليتحدث معه، وبعد عناء المشي اقتعد تحت ظل حماطة، تزايدت ذكريات المكان، ذلك منزل جمعان، وتلك مزرعة عطية، وذلك المسراب يفضي إلى منزل جار الله، وهناك كان يبيع خميس الرمان والخوخ، وحسينة التهامية تبيع الكادي والريحان. تنازعته فكرة الرحيل مرة ثانية وقال في نفسه: نبت هنا وامتد جسدي هناك لأصل أرض الزيتون، كل ذلك جعله يشعر بانفصال بين ما يفكر فيه وبين المكان الذي عاد إليه متأخرًا، ليسير تائهاً في طرقات القرية ويتحدث بصوت مسموع، ويطلق في أحايين راحلته لينشد بقصائد عتيقة بصوت مرتعش، أبو نشمي فقد عقله هكذا أصدر الأهالي حكمهم عليه، وبقي منعزلاً في حجيرة صغيرة على سفح جبلي تباشره الشمس والرياح الباردة كل صباح، يقتات من نباتات الأرض وما يصله من طعام، يرفض الالتقاء بأحد سوى ركيب بانت الشقوق في تربته، كان يزرعه ذات زمن بمحصول الحنطة. في صباح شتوي وجدوا عقالاً بذؤابته السوداء لرجل عجوز يطفو فوق مياه الوادي الباردة لتحركه بهدوء في مسارها الطويل نحو المجهول.