آآه.. ما أثقلها من عبارة.. وما أبلغها من معلومة.. وما أعمقها من دلالة.. كنت أنوي الاتصال بحسين (ابن شقيقي عبدالعزيز) لترتيب زيارتي المعتادة له في منزله فإذا به يسبقني مهاتفًا: (أبوي يطلبك الحل). فتعطلت لغة الكلام ونابت عنها لغة أكثر بلاغة وتعبيراً، وحضرت النفس البشرية الميالة إلى عدم التصديق لكل خطب جلل رغم إيمانها العميق بتحققه، وهو شعور يبقى ملازماً لها ما بقي أثر الخطب لا يزول بزوال مؤثره. من أين أبدأ؟! وإلى أين أنتهي؟! وكيف أتوقف؟! بل كيف أكبح جماح قلم مداده يتدفق مدراراً كلما مر عليه اسم (عبدالعزيز) وعاودته ذكراه؟! نعم، قلم! لأنني أكتب به هذه المرة فهو يفهمني أكثر من لوحة المفاتيح والأقدر على ترجمة المشاعر، يقرأ نبض أناملي فينزفها حرفاً تلو آخر، فبيننا لغة مشتركة لا يفهمها إلا من يتقن أبجديتها ويتعامل مع حروفها. من أين أبدأ؟! من صلب واحد خرجنا منه؟! أم من رحم واحد تخلقنا فيه؟! أم من بطن واحد حملنا وهناً على وهن لم يرتح من الأول حتى أوهنه الثاني. من حضن طواه الردى مبكراً فلم ننعم بدفئه أو نشعر بحنانه. من أم قارئة مجودة للقرآن رسخت فينا حبه وتلاوته في سن مبكرة جداً كأنما أدركت دنو أجلها فاستعجلت تربيتنا به وعليه. من أب أكمل المسيرة، حرص أن نختم القرآن تلاوة قبل أن ننهي المرحلة الابتدائية، وتحمل المسؤلية مبكراً، فكان الأب والأم والأخ والصديق والمربي والمعلم، فحرمناه الكثير من متع الحياة، وحرمه القدر مبكراً التمتع بنجاحات أولاده ورؤية أحفاده. من حجرة كانت بها أمي تمد وسادنا لا نعي أبعادها ولا محتواها إلى أخرى بتنا نمد بها وسادنا ونحط فيها رحالنا ونلقي بها همومنا. من بيوت وأحياء ومدارس فرضت الظروف التنقل بينها نعيش في المكان ذاته ونلهو في الأزقة ذاته وندرس في الفصل ذاته. وعم أتحدث؟! عن (زواريب) طمرنا بها كنوزاً مثقلة الخطى.. و(جدران تركنا عليها ذكريات صبا) ماذا لو ربَت تلك الزواريب وتفتحت؟! ونطقت تلك الجدران وتحدثت؟! والبيوت والأحياء وفصول الدراسة باحت بأسرارها وحكت؟! عم أتحدث؟! عن لقمة عيش تناولناها؟! ورغيف خبز تقاسمناه؟! عن إناء أكلنا فيه، ووعاء شربنا منه، وحصير افترشناه؟! عن لعبة بأيدينا صنعناها؟! ووجه ضاحك رسمناه؟! ودرب واحد مشيناه؟! عن تفاصيل صغيرة لا يتسع المقام لذكرها بل لا يسمح أن تتناقلها الرواة؟! عن (المقيبرة) أو السوق المركزي في ذلك التاريخ (الداون تاون) لمن يعرفها ويعرف طقوسها وأجواءها التي كانت تشهد حضورنا الدائم، نحمل سطل ماء معدني نملؤه من أقرب صنبور مياه مع كسرة ثلج ب(قرشين)، فيما أحمل كوباً معدنياً منادين (البارد اشرب)، نروي عطش مرتادي السوق مقابل قرش دارج للكوب الواحد. عن (حراج ابن قاسم) المجاور لجامع الديرة (الإمام تركي بن عبدالله) الذي يشهد حضورنا الصيفي مفترشين الأرض نبيع كتبنا المدرسية لمرحلة تجاوزناها ونبتاع بعض القصص والمجلات. وعن وعن.. وإلى أين أنتهي؟! ليتك تعي (وأنى لك ذلك) كم هم الذين صلوا عليك والذين شيعوك إلى قبرك الطاهر والذين دعوا لك في السر والعلن؟! كم هم الذين أثنوا على سيرتك ونظافة يدك ونقاء قلبك ومعشرك وصلة رحمك؟! قلت ذات مقال: قد تعتقد أنك أقرب الناس إلى البعض وأكثرهم معرفة به فتكتشف أنك (عرفت عنه شيئاً وغابت عنك أشياء)، هذه نظرية لدى كثيرين تتحول إلى حقيقة لدى من يعيشها واقعاً برهانها شهود الله في أرضه. نعم، كنت أعتقد وأنت شقيقي ونعتقد كأسرة أننا نعرف عنك الكثير فاكتشفنا أن مالا نعرفه عنك أكثر مما نعرف. سنرقب حضورك بعد أيام في لقاء الأسرة الشهري الذي سنه والدي -رحمه الله- قبل أكثر من أربعة عقود، وسنرقبه في كل لقاء ونحن ندرك أنك لن تحضر! نتطلع إلى مجيئك ويتراءى أمامنا خيالك فما عهدناك عن لقائنا تتأخر! سنفقد رسالتك وأنت عميد الأسرة غير المتوج التي تؤكد فيها على الجميع الحضور والالتزام، وتؤكد على حضور الأبناء قبل الآباء والصغار قبل الكبار لضمان استمرار اللقاء وانتظام عقده وتعاقب أجياله.. وماذا بعد؟! مات (عبدالعزيز) وبقي ال(عبد) (العزيز)، مر شهر على رحيلك وسيمر شهر وشهور.. ومع أن لكل من الحياة والموت لغته الخاصة به إلا أن بينهما كيمياء لغوية وبلاغة إعجازية: (يارب حي رخام القبر مسكنه ورب ميْتٍ على أقدامه انتصبا) ما معنى أن يموت مثله؟! أن يخرج من حالة الرؤية المجردة إلى عالم الخيال. أن ينتقل من عالم بصرك إلى عمق بصيرتك. أن تتخيله في كل خطوة مشيتها معه وكل مكان التقيته فيه وكل ساعة قضيتها بقربه وكل مناسبة جمعتك به. كل يوم يمر تتنامى ذكراك معي. يطوف بها ركب الليالي.. وعند ذكرك ترسو وتبحر و(تروادني ذكراك كل عشية ويورق فكري حين فيك أفكر) في ليلته الأخيرة وما قبلها كان ينادي في نومه على أمه وأبيه، وفي ساعاته الأخيرة، حيث نقل إلى المستشفى صلى الظهر جماعة مع ابنيه ومرافقيه ثم العصر، وعندما حان وقت المغرب طلب التعجيل بالصلاة لضيق وقتها فقام وتوضأ وصلاها جماعة، ثم غادر كرسيه المتحرك الذي عقد معه صداقة لبضعة أيام لم تكن كافية ليتعرف عليه إلى سريره ليرتاح ثم رفع سبابته ناطقاً بالشهادة دون تلقين أو تذكير ليتوقف قلبه الطيب عن النبض ويتوقف قلمي عن نبضه هو الآخر. والله من وراء القصد..