منذ نحو أربعة أشهر والقتال مستمر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ما أدى إلى مقتل وجرح الآلاف وتشريد الملايين وتهديد ملايين آخرين بالموت جوعًا، وتناثر الجثث في كل مكان، وانتشار عصابات القتل والنهب والاغتصاب. وطوال هذه المدة حاول كل طرف القضاء على الطرف الآخر بقوة السلاح على الرغم من إجماع المتخصصين في العالم بأن الخلاف بين الطرفين لا يمكن حله عسكريًا. ومع اختلاف روايات الجنرالات عن أسباب الحرب، إلا أنه بات واضحًا الآن بأن هذه الحرب ليست بعيدة عن الصراع الدائر بين قوى خارجية للسيطرة على موارد البلاد الطبيعية وموقعها الجغرافي بين دول شمال إفريقيا ودول الساحل والقرن الإفريقي والبحر الأحمر. كان الجنرالان عبد الفتاح البرهان ومحمد حميدتي رفاق سلاح عندما اتحدا للإطاحة بنظام عمر البشير وهو أيضًا جنرال انقلب على حكومة الصادق المهدي المدنية بدعوى إنقاذ البلاد. في عام 2019، ادعى الرجلان بأنهما إصلاحيان وحاميان للديمقراطية وبأنهما سيديران البلاد لفترة انتقالية، ولكنهما نقضا هذا الوعد وأطاحا بالحكومة المدنية وأفشلا كل محاولات الحوار الوطني للتوافق والوحدة الوطنية، وكررا بذلك تاريخ السودان الذي ابتلي بالانقلابات العسكرية منذ استقلاله في عام 1956 المفاوضات البريطانية - المصرية، وهكذا ظل الحال على قاعدة كلما جاءت "ثورة" لعنت أختها. وعلى الرغم من مبادرة قيادة المملكة لجمع ممثلين عن الطرفين في مدينة جدة والتوصل إلى عدد من الهُدن لوقف القتال لإعطاء فرصة للمساعي الدبلوماسية، إلا أن الطرفين انتهكا وقف إطلاق النار في كل مرة وعادا إلى الاقتتال رافعين شعارات النصر وهتافات "الله أكبر" وكأنهما يخوضان حربًا ضد عدو خارجي جاء لاحتلال بلادهم. وقد أخذت هذه الحرب بعدًا لا أخلاقيًا لا يحترم العرف العسكري وشرف السلاح لأنهما لا يتقاتلان في فضاء مفتوح وإنما يتصارعان في المدن فأخذا الشعب السوداني رهائن وقواتهما تخوض حربًا داخل الأحياء السكنية ما جعل المدنيين أسرى في بيوتهم المدمرة أو المهددة بالقصف، ومن نجا منهم هرب إلى مصير مجهول في عالم الشتات واللجوء، والنساء يلدن أطفالهن في العراء، بينما ترك آلاف الجرحى والمرضى ليعيشوا مع آلامهم وأحزانهم بعد انهيار النظام الصحي، في الوقت الذي تعطلت فيه معظم مناحي الحياة في هذا البلد الذي أصبح منبوذاً ومعزولاً بعد مغادرة البعثات الدبلوماسية والرعايا الأجانب ومنعت المنظمات الدولية من تقديم المساعدات الإنسانية للتخفيف من معاناة الناس. على الرغم من أن السودان كان يوصف بأنه "سلة الغذاء" العربي نظرًا لثروته المائية ومصادره الطبيعية، إلا أن 65 % من الشعب السوداني كانوا يعيشون تحت خط الفقر وكان 15 مليونًا (30 % من السكان) مهددين بالمجاعة، وقد زادت الحرب من معاناة هذا الشعب وفقره وتدمير ممتلكاته، وسوف يحتاج من بقي منه على قيد الحياة إلى عقود طويلة لاستعادة عافيته وسلامه. في عام 2011، انفصل جنوب السودان عن شماله بسبب سياسات عمر البشير الذي قال في ذروة الصراع بين الشمال والجنوب: إن الانفصال لن يحدث إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إلا أن هذا الوعد لم يتحقق بسبب سوء إدارته للصراع وتدخل أطراف كثيرة في الحرب الأهلية التي استمرت 22 عامًا وقتل فيها أكثر من مليوني شخص. مع استمرار هذا القتال، ومع توقع انفجار صراعات جديدة بعد الأزمة الحالية في النيجر، ومع مواصلة أطراف خارجية دعم الطرفين المتقاتلين، يصعب التنبؤ متى ستنتهي هذه الحرب وكم ستخلف من الضحايا وهل سيبقى ما تبقّى من السودان موحدًا أم أنه سينقسم إلى "سودانات" كثيرة! قبل عامين، نشرت مجلة السياسة الخارجية Foreign Policy الأمريكية تقريرًا بمناسبة مرور عشر سنوات على انفصال جنوب السودان تحت عنوان "لماذا ترك جنوب السودان وحيدًا يعاني من الصراعات والفقر؟ وقالت فيه: "إن أعظم قصة نجاح حققتها الولاياتالمتحدة في القارة الأفريقية تحولت إلى أكبر قصة فشل"، فهل سيدرك جنرالات السودان، والذين يغذون حربهما هذه الحقيقة؟ نتمنى ذلك قبل فوات الأوان! .