عندما كانت تقع الحروب والصراعات الدولية نجد أن مجلس الأمن بأعضائه الخمسة دائمي العضوية يجتمعون فوراً لبحث آلية لإيقاف الصراع وفق القوانين والأعراف الدولية، ولطالما شاهدنا هذا المجلس حاضراً في الكثير من الصراعات منذ تأسيسه يُخفق أحياناً ويحقق بعض النجاحات أحياناً أخرى وإن كان الفيتو لعب دوراً سلبياً في إفشال الكثير من قراراته في عددٍ من الصراعات بسبب التوجهات السياسية والبرغماتية لأعضاء المجلس. المفارقة العجيبة أن هذا المجلس قد خلع عنه مسمى مجلس الأمن ولبس عباءة مجلس الحرب عندما دخل أعضاؤه النوويون في مواجهة حربية عسكرية واقتصادية بعد العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، حيث قادت الولاياتالمتحدة الأميركية تحالفاً غربياً مع فرنسا وبريطانيا ودول الناتو ضد محور الشرق روسيا والصين وكل من وقف مع روسيا في حربها على أوكرانيا، وبالتالي انقسم العالم إلى ثلاثة فسطاطات: الفسطاط الغربي الذي يدعم أوكرانيا بالمال والسلاح النوعي ومارس مقاطعة شرسة ضد روسيا وكل من دعمها في حربها، وتزعمت الولاياتالمتحدة الأميركية هذا التحالف مع دول حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، أما الفسطاط الشرقي فتقوده روسيا وعدد من الدول المجاورة والصين وكوريا الشمالية وعدد من دول شرق آسيا وإن لم يكن الدعم ظاهراً ومعلنا فهو دعم خفي تحكمه المصلحة والعلاقات الاقتصادية مع روسيا مثل الهند ودول آسيا الوسطى ذات العلاقة الاستراتيجية مع روسيا وبعض دول الشرق الأوسط مثل إيران وغيرها. أما الفسطاط الثالث فهي دول الحياد التي التزمت الحياد الإيجابي بعدم الانحياز لأي من الفسطاطين المتحاربين بل بقيت على مسافة واحدة من طرفي النزاع وعلى رأس هذا الفسطاط المحايد المملكة العربية السعودية التي عبرت عن موقفها منذ اندلاع الحرب ودعت إلى وقفه والجلوس للحوار ودعت لعدم التدخل الخارجي وتدويل الأزمة، وحذرت العالم من تداعيات هذه الحرب على الأمن والسلم العالميين وتأثيرها المباشر على الأمن الغذائي وأمن الطاقة مما ينذر بأزمات اقتصادية وتضخمية وغلاء معيشة وتدهور في معيشة الكثير من الشعوب التي تعتمد على الحبوب الروسية والأوكرانية، وهذا ما حدث بالفعل لا سيما والعالم ما زال يعاني من تداعيات جائحة كورونا، وانطلاقاً من هذا الحياد الإيجابي رأينا أن السعودية قد لعبت دور الوسيط الموثوق من بداية الأزمة لمحاولة إقناع طرفي النزاع بوقف إطلاق النار ولعبت دورا إنسانياً بالإفراج عن عدد من الأسرى، وقدمت دعماً مالياً بلغ 410 ملايين دولار للشعب الأوكراني الذي يعاني من نزوح وتقطع سبل الحياة بهم، وواصلت الجهود في القمة العربية بجدة بدعوة الرئيس زيلنسكي للمؤتمر وإبلاغه رسالة الوطن العربي الداعية للسلام وتغليب العقل والحكمة وإنقاذ ما تبقى من مقدرات الدولة الأوكرانية التي دمرتها الحرب. كذلك رأينا جهود المملكة ضمن منظمة أوبك وأوبك بلس للمحافظة على استقرار أسواق الطاقة والحفاظ على سلاسل إمدادات الطاقة لمنع حدوث أزمة طاقة قد يدفع ثمنها الشعوب الفقيرة والدول الأكثر فقراً في العالم في جعل هذه السلعة الاستراتيجية تواصل استقرارها وتدفقها وفق مصلحة المنتجين والمستهلكين. واستمرار لهذه الجهود الحميدة التي تبذلها المملكة العربية السعودية فقد دعت الرياض مندوبين من أكثر من ثلاثين دولة يمثلون القارات آسيا وأفريقيا وأوروبا والأميركيتين لحضور اجتماع تشاوري في جدة في الفترة من 5-6 أغسطس 2023، كما تضمنه البيان السعودي الذي نشرته (واس) (تتطلع الحكومة السعودية إلى أن يسهم الاجتماع في تعزيز الحوار والتعاون وتبادل الآراء على المستوى الدولي حول السبل الكفيلة لحل الأزمة الأوكرانية بالطرق الدبلوماسية والسياسية). وتأمل السعودية من هذا الاجتماع كما تضمنه البيان الصادر أن تسهم في بلورة حلول ورؤى يمكن أن تؤدي إلى وقف الحرب والجنوح للسلام، كما أنه لا ينُتظر أن يكون هذا الاجتماع والاجتماع الذي سبقه في كوبنهاغن أن يكونا نهاية المطاف فالطريق طويل لإقناع طرفي النزاع بوقف الحرب إلا أن هذا الاجتماع يؤصل لخطوات مهمة واستراتيجية تتمثل في: - 1- إبراز خطورة هذه الحرب وتداعياتها أمام المجتمع الدولي. 2- العمل على إيجاد حلول للأزمات المنبثقة عن الأزمة الأساسية مثل أزمة الطاقة وأزمة الغذاء وأزمة الأسرى والمهجرين وغيرها من الأزمات المصاحبة وهذا يعد خطوة ناجحة بامتياز إذ أن علاج الآثار المترتبة على الجرح كفيلة بالإسراع في التئام الجرح نفسه وشفائه. 3- التقاء الدول المتأثرة بشكل مباشر أو غير مباشر من هذه الحرب لدراسة المشكلات الناجمة عن هذه الحرب على اقتصادات هذه الدول مما يمهد لبلورة حلول مستقبلية تكفل تخفيف الأعباء عن شعوب هذه الدول. 4- محاولة إقناع الدول الداعمة للحرب بالمال أو السلاح بأن هذا الدعم يعد شكلاً من أشكال الحرب المباشرة لأن هذا الدعم من شأنه إطالة أمد الحرب وعدم الحسم مما يحولها إلى حرب استنزاف وتدميرٍ للبنى التحتية لمزيد من التهجير وظهور كوارث اجتماعية وبيئية خطيرة قد يصعب علاجها. 5- إيصال رسالة مفادها أن الدول النووية لا تقبل الهزيمة لذا لا بد لدول الغرب والناتو أن يعطوا الرئيس الأوكراني حرية إدارة الصراع والجنوح للسلم إنقاذاً لبلاده وحفاظاً على ما تبقى منها. 6- إيضاح أن هزيمة روسيا يجب ألا تكون الهدف الخفي للدعم الغربي المستميت لأوكرانيا الذي وصل لإمدادها بالقنابل العنقودية المحرمة دولياً والموقعة عليها أميركا ودول الناتو وتلقى معارضة من الاتحاد الأوروبي. 7- قد تعتقد الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي أن هذا اللقاء سيكون تحشيداً مع أوكرانيا ضد روسيا وهذا غير صحيح ولن تقبل السعودية بهذا الطرح بل هو لقاءٌ للبحث عن حلول وليس منحازاً لأحدٍ ضد أحد. إذاً نستطيع القول إن هذا اللقاء يعد خطوة متقدمة نحو هندسة حلول للأزمات الحالية من هذه الحرب والتي تنوعت إلى أزمات عسكرية واقتصادية وبيئية وغذائية ومائية وصحية واجتماعية وهذا ما يعطيها هذا الاهتمام العالمي ويسلط الضوء عليها من جميع وسائل الإعلام العالمية بهذا الحضور الكبير والتمثيل الرفيع من الدول لا سيما حضور الولاياتالمتحدة الأميركية والصين ودول الاتحاد الأوروبي الذين يرون في استضافة السعودية لهذا الحدث المهم خطوة حاسمة في ملف الأزمة لثقل السعودية السياسي والاقتصادي ومواقفها الدولية الداعية والساعية للسلام، كما أنه يعد إنجازاً للدبلوماسية السعودية على الصعيد العربي والدولي ولذا نقول إن نجاح هذا اللقاء قد تم بامتياز. * رئيس منتدى الخبرة السعودي