سلّطت الحرب الروسية في أوكرانيا، مزيداً من الأنظار على العلاقة بين الصينوروسيا، ليشكّل هذا الصراع اختباراً للروابط بين البلدين، ويطرح تساؤلات حول مدى قدرة الصين على الوقوف إلى جانب حليفتها في وجه الضغوط الغربية، والدور الذي يمكن أن تؤديه في هذا النزاع، أكان بدعم الروس، أم ربما كوسيط، في ظل مؤشرات على سعيها لطرح مبادرة للحل والمكونة من 12 بندا مؤخرا، لإنهاء الأزمة في أوكرانيا كجس نبض للأطراف الغربية التي تدير الحرب على أرض الواقع ضد روسيا. وبعد 360 يومًا على اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ها هي الصين أخيرًا تدرك خطورة الموقف وضرورة وقف الحرب وتغليب الحل الدبلوماسي، من خلال إعلان نيتها القيام بدور الوساطة. على وقع عقوبات غربية جديدة ضد موسكو ودخول الصين على الخط بقوة بمبادرة دبلوماسية لوضع حد لصراع تسبب في حدوث أزمات عالمية متتالية (الطاقة والغذاء وجيوسياسية) دخلت الحرب الروسية ضد أوكرانيا عامها الثاني. وقدمت بكين مقترحًا لوقف إطلاق النار في أوكرانيا لاقت ردود فعل متباينة بين مرحب ومشكك ومترقب، فيما فرضت بعض المسائل الأخرى نفسها على ساحة النقاش في إطار دراسة وتقييم قدرة بكين على القيام بهذا الدور ومدى امتلاكها لأدوات ومقومات التنفيذ، وما دوافعها لذلك ولماذا الآن والعقبات التي يمكن أن تقف حجر عثرة أمام نجاح الوساطة. والمبادرة التي كشفت عنها بكين لا يمكن اعتبارها وثيقة سياسية بالمعنى التقليدي المتعارف عليه، فهي أقرب إلى بنود عامة وأطر أولية يمكن الاستناد عليها لانطلاق عملية التفاوض والتباحثات، دون وضع خطة أو جدول زمني للتنفيذ، وكانت موسكو تشيد بالدور الحيوي للصين في جهود حل الصراع في أوكرانيا، و"نهج الصين المتوازن". وشككت الخارجية الأميركية في جدوى المبادرة وأعربت عن قلقها من زيادة التحالف بين الصينوروسيا. قال وليام بيرنز مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA: إن الولاياتالمتحدة "واثقة" من أن الصين تفكر في إرسال معدات فتاكة إلى روسيا، وأضاف مدير وكالة الاستخبارات المركزية لشبكة CBS NEWS: "نحن على ثقة من أن القيادة الصينية تدرس توفير معدات قاتلة"، وأوضح بيرنز، أن المعلومات الاستخباراتية تشير إلى أنه لا يوجد قرار نهائي من قبل بكين، "كما أننا لا نرى أنه تم اتخاذ قرار نهائي بعد، ولا نرى أدلة على شحنات فعلية تشمل معدات فتاكة"، فيما تساءل بعض الخبراء حول توقيت المبادرة، وقد تكون بكين لمست من خلال اتصالاتها بطرفي النزاع، رغبة في تذليل العقبات وتقريب وجهات النظر كون دولة بحجم الصين لا يمكن أن تغامر بطرح مبادرة دولية من دون أن تضمن استعداداً وانفتاحاً من الأطراف المعنية على الحلول السلمية. وفيما قالت مصادر أوروبية أن ما عرضته الصين مهم من ثلاث زوايا: الأولى، أن "انخراطها في الدعوة إلى وقف الأعمال العسكرية وعودة المسار التفاوضي يعد أمرا جيدا خصوصا أنها تحل في وقت غابت فيه أي مبادرات سياسية ولذا، ثمة حاجة رئيسة لتدخل بكين على خط التواصل، وفي هذا السياق، كانت ردة فعل الرئيس الأوكراني زيلينسكي لافتة كونه دعا إلى التواصل المباشر بينه وبين السلطات الصينية. والأمر الثاني أن "الخطوة الصينية تسبق التوقعات الغربية التي ترجح أن موسكو تتهيأ لمعاودة الهجمات على أوكرانيا مع بداية الربيع القادم في جولة قتال واسعة جديدة، وبسبب هذه المخاوف، فإن الغربيين يسارعون إلى الاستجابة لمطالب كييف من السلاح الثقيل من أجل تمكينها من مقاومة الهجمات الروسية المرتقبة وحتى تصل من موقع قوي إلى طاولة المفاوضات عندما يحين وقتها". والثالث "القناعة القائلة إن بكين، بسبب تموضعها منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، هي الطرف الوحيد الذي يستمع إليه الرئيس بوتين، مع دخول الحرب في أوكرانيا عامها الثاني تتعهّد كل من موسكو وكييف بتحقيق الانتصار، لكن الانتصارات الحاسمة تبدو مستبعدة ومؤجلة، وتبرز التساؤلات مجدداً عن آفاق المواجهة المتفاقمة، وطبيعة نقطة النهاية فيها في ظلّ إجماع كل الأطراف المنخرطة في الحرب على صعوبة دفع تسوية سياسية لم تنضج ظروفها بعد". وركز المقترح الأساسي المكون من 12 بندًا على 5 محاور أساسية: الأول يتعلق بضرورة احترام السيادة والتشديد على التمسك، بشكل فعال بسيادة جميع البلدان واستقلالها وسلامتها الإقليمية، كذلك أهمية استئناف محادثات السلام بين طرفي النزاع، على اعتبار أن الحوار والتفاوض هما الحل الوحيد القابل للتطبيق. وشددت المبادرة على ضرورة أن يظل المجتمع الدولي "ملتزمًا بالنهج الصحيح لتعزيز المحادثات من أجل السلام ومساعدة أطراف الحرب على فتح الباب أمام تسوية سياسية في أسرع وقت ممكن، وتهيئة الظروف والمنصات لاستئناف المفاوضات"، بجانب نبذ استخدام الأسلحة النووية كأحد الأسلحة المستخدمة في الحرب، وهو التهديد الذي طالما لوحت به موسكو أكثر من مرة، حيث أشارت الوثيقة إلى أنه "يجب منع الانتشار النووي، وتجنب حدوث أزمة نووية "مؤكدة على معارضة بكين استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية من أي دولة، تحت أي ظرف من الظروف"، كما يتعين على الجانبين "الالتزام الصارم بالقانون الإنساني الدولي، وتجنب مهاجمة المدنيين أو المنشآت المدنية". كما دعت بكين في مقترحها المقدم جميع الأطراف إلى التخلي عما أسمته "عقلية الحرب الباردة" في إشارة إلى إستراتيجية إطالة أمد الحروب والنزاعات بين المعسكرين الشرقي والغربي، كأحد مخرجات الحرب العالمية الثانية التي إن تخلت عن المواجهات العسكرية المباشرة لكنها مستمرة في مسارات أخرى بذات التشابكات والأطراف. الإعلان عن الوساطة الصينية لم يكن قرارًا انفراديًا من بكين، إذ سبقته حزمة من الترتيبات والإعدادات والتشاورات أجرتها الخارجية الصينية مع بعض الدول المعنية، حيث زار وزير الخارجية الصيني كل من ألمانيا وفرنسا وهنغاريا وروسيا، أعقبها لقاء جمعه ونظيره الأميركي أنتوني بلينكن في ميونيخ. وتشير المصادر أن أبرز الأسباب التي قادت الصين لهذا الموقف منها أولًا: الرغبة في الإبقاء على صلة بما يجري في الأراضي الأوكرانية ومحاولة لفت الأضواء لدورها الإقليمي والدولي على المستوى السياسي وليس الاقتصادي فقط، ثانيًا: استشعار الصين بخسارة روسيا للحرب بما يعني انتصار مؤزر للولايات المتحدة قد يعزز نفوذها في شرق أوروبا، وعليه كان لا بد من التحرك لتفويت هذا الانتصار على الأميركان من خلال حلحلة الأزمة سياسيًا، حيث لا منتصر ولا منهزم، وهو الموقف ذاته إزاء حلف الناتو الذي من المتوقع أن يعزز من حضوره في خاصرة آسيا الغربية حال انتصار القوات الأوكرانية في تلك الحرب. ثالثًا: قلق الصين من تعرض أمنها القومي للتهديد جراء الفراغ السياسي المحتمل على طول الحدود الشمالية، رابعًا: مخطط الصين لدق إسفين بين كييف وحلفائها الغربيين، من خلال بث الفرقة وإحداث حالة من الخلاف السياسي حول المبادرة. وهناك دوافع أخرى تدفع بكين لتخفيف حدة التوتر في الداخل الأوكراني، فرغم أنها من أوائل الدول التي حققت مكاسب اقتصادية كبيرة من وراء تلك الحرب عبر الحصول على الطاقة الروسية بأقل الأسعار، فهي في حاجة ماسة للاستقرار لتسويق منتجاتها، خاصة أن موسكو سوق رائجة للبضاعة الصينية، وعليه فهي بحاجة إلى مناخ مستقر لتعزيز الحضور هناك، الأمر كذلك في السوق الأوروبي والشرق أوسطي الذي يخشى من تداعيات اتهام بكين بدعم موسكو في تلك الحرب على مصالح الصين في تلك الأسواق. كما أن الإبقاء على الأجواء الملتهبة في تلك المنطقة قد يعرقل المشروع الصيني العملاق (حزام واحد، طريق واحد)، الذي دشنته بكين عام 2013 لتوسيع دائرة نفوذها وتعاونها الاقتصادي مع دول العالم، هذا المشروع الذي يمتد من المحيط الهادئ إلى آسيا والشرق الأوسط وصولًا لقارة أوروبا، ويشمل 65 دولة حتى اليوم، منقسمًا إلى مسارين رئيسين: الممر البري الذي يمر من آسيا الوسطى وباكستان مرورًا بروسيا وإيران وصولًا إلى أوروبا، والممر البحري الذي يربط الصين مع جنوب شرق آسيا وجنوب إفريقيا، ويمكن أن يصل إلى قارة أميركا الجنوبية أيضًا. وتأتي هذه المبادرة بعد دعوة الرئيس بوتين، لنظيره الصيني شي جين بينغ لزيارة موسكو، في إطار التعاون المشترك بين البلدين. ولم تتخذ بكين موقفا سياسيا واضحا يدين الحرب ويؤكد حق أوكرانيا في كامل أراضيها، ربما يجهض المبادرة من مضمونها، فهنا ستفقد الصين الحيادية كشرط أساسي لنجاح أي وساطة في مثل تلك النزاعات العالمية. امتنعت عن التصويت على قرار تبنّته الجمعية العامة للأمم المتحدة يجدد مطالبة روسيا بسحب كل قواتها -فورا وبالكامل ومن دون أي شرط- من أراضي أوكرانيا، كما يدعو القرار إلى وقف الأعمال العدائية. وهي المرة الرابعة التي تمتنع فيها بكين عن المشاركة في مثل هذا التصويت منذ بدء الحرب في 24 فبراير 2022. ومع دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثاني، ما تزال تشكل الحدث الأبرز على الساحة الدولية، ما يبقي حالة الترقب وفق مراقبين، ملازمة لمجرياتها وما ستنتهي إليه من نتائج، وسط تأكيدهم أن الغموض سيد الموقف، حيال الأسباب والشروط والظروف التي يمكن أن تؤدي لتوقفها. ويرى هؤلاء أيضا، أن مرور عام على بدئها، فرصة لكشف حساب يشمل ميزان الربح والخسارة في الجوانب الأساسية الثلاثة للحرب: العسكرية والسياسية والاقتصادية التي، أفرزت توسعا جيوسياسيا، بما تملكه المناطق التي أصبحت تحت السيطرة الروسية من ثروات هائلة، ستلعب دورا مهما بإنعاش الاقتصاد الروسي، وزيادة حجم ثرواتها الطبيعية والمعدنية. وتتمثل النتائج، بإضافة أربع مناطق جديدة ومتكاملة تاريخيا إلى روسيا، بتعداد سكان يصل لعدة ملايين وبمساحة كبيرة، عدا عن تعزيز الأمن الاستراتيجي لروسيا، بسبب بحر آزوف الداخلي، وتدمير المختبرات البيولوجية في أوكرانيا، فضلا عن تفعيل البناء العسكري الروسي، وتعبئة الصناعة الدفاعية، مع الأخذ بالاعتبار، الفترة الطويلة الحتمية للصراع مع الولاياتالمتحدة وحلفائها، وتدمير ترسانات الناتو العسكرية في مسرح العمليات الأوكرانية، وإعادة توجيه العلاقات الاقتصادية، ونمو المكانة الدولية لروسيا، والتمكن من زعزعة استقرار الاقتصاد الغربي، كنتيجة للعقوبات ضد موسكو. الحشود العسكرية الروسية، بدأت تتدفق إلى شرق أوكرانيا، استعدادا لهجوم كبير، في وقت تتهيأ العاصمة الأوكرانية كييف، الموعودة بالمساعدات العسكرية الغربية من دبابات قتالية وصواريخ بعيدة المدى، لشن هجوم مضاد في الربيع، لاستعادة السيطرة على الأراضي التي وقعت تحت سيطرة القوات الروسية، ومنذ اندلاع الحرب، شهد العالم تباطؤا في النمو وزيادة سرعة التضخم، بخاصة في البلدان النامية، بحيث ينتشر الفقر ويظل نمو الأجور مقيدا، وكلما طال أمد الصراع الروسي الاوكراني، فإن الخسائر الاقتصادية ستزداد على مستوى البلدين والعالم أجمع. روسيا، باتت اليوم في حرب وجودية مع الغرب، ما يستدعي اتخاذ موسكو لقرارات استثنائية تتفق مع فكرتي السيادة، ورفض ربط مستقبل البلاد بالمؤسسات الأوروبية، السياسية والتجارية. بوتين حدد أهدافا للعام الثاني للعملية العسكرية، معلنا عن خطط لنشر صواريخ باليستية جديدة متعددة الرؤوس، عابرة للقارات من طراز سارمات في العام الحالي، بينما أقر زيلنيسكي في خطاب له، عشية مرور عام على الحرب مع بلاده، بصعوبة الوضع العسكري على جبهتي الشرق والجنوب، وقال إن الوضع العسكري في جنوبأوكرانيا خطر للغاية، لكنّ القوات الأوكرانية قادرة على صدّ الغزاة. إنه صراع أيديولوجي بين رؤيتين للعالم وصراع للهيمنة، ومنها استدراج التاريخ لكشف أسس الصراع المستمرة منذ القرن ال19.