أضحى الصراع الأوكراني - الروسي حربا كونية بامتياز، حيث يرى الغرب بعد مرور عام كامل عليها، أن إلحاق الهزيمة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قادم لاريب فيه مهما طال الزمن"، وأنه جاهز لنزاع طويل الأمد في أوكرانيا، فيما يعتقد بوتين أن روسيا تحارب في أوكرانيا من أجل "أراضيها التاريخية" والدفاع عن مصالحها، وتعتبر الحرب الروسية هي أول نزاع عسكري كبير خلال ال30 عامًا الماضية، تخوضه قوات تستخدم ترسانة شبه كاملة من الوسائل المتاحة للحرب على الأرض وفي البحر والسماء، حتى مع استثناء الأسلحة النووية. وسبق أن روجت واشنطن أن الولاياتالمتحدة هدفها في هذه الحرب استنزاف القوة الروسية في حرب طويلة الأمد، واستطاعت أن تجمع دول الاتحاد الأوروبي تحت لوائها، وأجبرته على الانخراط فيها ودفع المزيد الذي ربما يصل إلى حرب على أراضيها. وأعلنت الولاياتالمتحدة، تقديم مساعدات مالية جديدة لأوكرانيا بقيمة 10 مليارات دولار، منها 250 مليونا لدعم البنية التحتية للطاقة في مواجهة الهجمات الروسية، تزامنا مع الذكرى السنوية للحرب. كما تضمن الدعم حزمة المساعدات الأمنية الأميركية الجديدة لأوكرانيا الاستمرار في مواجهة الهجمات الصاروخية التي تشنها القوات الروسية، وفق ما كشف المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية. وتتضمن الحزمة أيضا قدرات أخرى مضادة للحرب الإلكترونية، وكل هذه المساعدات تصل قيمتها 2 مليار دولار، ما يساعد الأوكرانيين على الهجوم والمناورة لاستعادة الأراضي. ولعل السبب الأهم في إطالة أمد الحرب وحرمان الدب الروسي من التقدم السريع وحسم المعركة الدعم اللوجستي والعسكري الكبير الذي تلقته أوكرانيا من حلفائها في أوروبا والولاياتالمتحدة الأميركية، ويؤكد المراقبون أن الحرب الحالية هي أشبه بالحروب الاستنزافية التي تأخذ وقتاً طويلاً حتى تتحقق عملية الحسم، ذلك أن أوكرانيا التي لا يمكن لها الوقوف أمام الدب الروسي في هذه المعركة تحصل على المساعدات الفورية والمستمرة من قبل حلف الناتو، خاصة الولاياتالمتحدة الأميركية"، وحينما أعلن بوتين الحرب على أوكرانيا، أدرك منذ البداية أن هذه الحرب ستكون مع الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية، خصوصاً أن موسكو عانت طوال سنوات ماضية من التمدد الأوروبي إلى حدودها الجغرافية". وبرزت في روسيا مقاربة سياسية وعقائدية، تقوم على حتمية إقامة نظام دولي متعدد الأقطاب، بعد أن غيّرت نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 مسار ميزان القوى العالمي، حيث لم تجد موسكو مكانا لها في المؤسسات التابعة للمنظومة الغربية، ما أدى إلى انهيار مدو لرهان النخب السياسية التي أدارت شؤون البلاد مع مطلع تسعينات القرن الماضي، ورسمت مسارات علاقاتها الخارجية وتوجهاتها الاقتصادية، والتي كانت غربية النزعة. ودول الناتو التي بدل أن تقنع روسيا بطاولة المفاوضات لتُنهي هذا الصراع، تعلن عن دعم أكبر من أسلحة ودبابات وطائرات حديثة الصنع. وعلى الرغم من ارتفاع أسعار الوقود واختفاء القمح من دولة إلى أخرى، وضرب أنابيب الغاز في أوروبا، في حرب اقتصادية واضحة المعالم، يبدو أن الصراع سيتسمر، إلى أجلٍ غير مسمى. وتأتي تلك "الاعترافات" العلنية من جانب لندنوواشنطن وباريس وباقي العواصم الغربية بأن الصراع في أوكرانيا عبارة عن "حرب عالمية" طرفاها روسيا والغرب، بمثابة تأكيد لوجهة النظر الروسية، وهو ما سيقوي موقف بوتين داخلياً بطبيعة الحال. وبالنظر إلى ما تسببت فيه الحرب خلال عامها الأول من معاناة لا توصف لأغلب شعوب العالم، حيث كانت الاقتصادات الناشئة تعاني من تداعيات جائحة كورونا ثم جاءت حرب أوكرانيا لتضع كثيراً من الدول على شفا الإفلاس، فإن الحديث الغربي عن "صراع طويل الأمد" يسبب غضباً كبيراً حول العالم بطبيعة الحال. ويتعامل البعض مع الحرب المشتعلة حاليا على الساحة الأوكرانية وكأنها حربٌ بالوكالة، تشبه حروبا أخرى كثيرة، اندلعت إبّان مرحلة الحرب الباردة، وانخرطت فيها إحدى القوتين المتنافستين على قيادة النظام الدولي، كالحرب التي تورّطت فيها الولاياتالمتحدة في فيتنام في منتصف ستينات القرن الماضي، والحرب التي تورّط فيها الاتحاد السوفييتي في أفغانستان في نهاية سبعينات القرن نفسه. صحيحٌ أن بينها سمات مشتركة، في مقدمتها الحرص على تجنّب المواجهة المباشرة بين القوى النووية والاكتفاء بتقديم الدعم إلى "الوكيل"، إلا أن للحرب الأوكرانية الراهنة سمات خاصة تميزها عن كل ما سبقها من "حروب الوكالة"، في مقدمتها عدم اكتفاء أحد طرفي الصراع من مالكي السلاح النووي، وهو الطرف الأميركي في هذه الحالة، بتقديم دعم سياسي وعسكري للوكيل الأوكراني، وإنما إقدامه، في الوقت نفسه، على فرض عقوبات شاملة على الطرف النووي الآخر، وهو روسيا، ما يعني تحوّل الأزمة الأوكرانية إلى مواجهة مباشرة بين القوتين النوويتين العظميين، على الرغم من تباين الوسائل المستخدمة في إدارتها، حيث تديرها روسيا باستخدام القوة العسكرية. أما الولاياتالمتحدة فتديرها باستخدام العقوبات الاقتصادية والمالية. ويعمل الغرب على تقويض إمكانية تحقيق روسيا أهدافها بسهولة ويسعى إلى استنزاف القدرات الروسية، وقد تحدث الغرب منذ البداية عن خطة روسية للقيام بحرب خاطفة، تحقق أهداف موسكو في أوكرانيا في غضون أيام قليلة من خلال فرض سيطرة كاملة على البلاد، أو على الأقل إسقاط الحكومة وإقامة حكومة أخرى بديلة عنها في كييف، وهي منظورات تحليلية تفتقر إلى أبسط قواعد الحروب، وبالتالي فإن إجماع الغرب خلال مؤتمر ميونيخ للأمن، على ضرورة مواصلة الحرب حتى "هزيمة روسيا"، يطرح عدداً من التساؤلات، أبرزها: هل يمكن فعلاً أن ينتصر الغرب على روسيا عسكرياً؟ وبحسب أغلب الخبراء العسكريين والاستراتيجيين الغربيين أنفسهم فان روسيا، تسيطر على مساحات كبيرة من شرق أوكرانيا وجنوبها، كما أن موسكو لم تلقِ بأغلب قواتها المحترفة في ساحة الحرب، وتعتمد، على مدار عام كامل، على ميليشيات فاغنر بشكل أساسي. إضافة إلى ذلك يظل الدعم الغربي لأوكرانيا رهناً بعوامل معيقة، أبرزها تجنب "استفزاز" روسيا وتحويل الحرب إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين موسكووواشنطن وحلفائها الأوروبيين، إضافة إلى الضغط الشعبي في العواصم الغربية التي يعاني مواطنوها من التبعات الاقتصادية للحرب. فالتضخم، الذي لم تشهده الاقتصادات الغربية منذ أكثر من أربع عقود، والارتفاع الجنوني لأسعار الطاقة والسلع الرئيسة، يمثل ضغطاً على المواطنين الغربيين، الذين بدأ أغلبهم في التساؤل عن "جدوى" الحرب وأهميتها. هذه الصورة العامة تشير إلى أن الاحتمال الأقرب هو أن تتخذ الحرب في أوكرانيا طبيعة حروب الاستنزاف طويلة الأجل، حيث يسعى كل طرف إلى استنزاف الطرف الآخر دون أن تلوح في الأفق أي إمكانية للحسم العسكري. ففي حالة تكثيف الغرب دعمه لأوكرانيا، عسكرياً ولوجستياً، بصورة تفتح الباب أمام احتمال هزيمة روسيا، لا أحد يتصور أن بوتين سيقبل بهذا ويستسلم له دون أن يلجأ لترسانته الهائلة من الأسلحة النووية، وقد هدد بذلك بالفعل. ويمكن تفسير أمر بوتين بنشر أسطول الشمال الذي يحتوي على ثلثي الأسلحة النووية الروسية بأنواعها، وذلك للمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة، على أنه "رسالة حادة اللهجة" موجهة للغرب. ويستفاد هنا هي أن الموقف الذي أعلنه الغرب خلال مؤتمر ميونيخ للأمن، يشير إلى أن الحرب في أوكرانيا قد لا تنتهي على المدى القصير ولا المتوسط، وهو ما يمثل خبراً سيئاً للغاية ليس فقط لروسيا والغرب، بل للعالم أجمع. فبعد مرور عام على الحرب الروسية - الأوكرانية باتت "الحقيقة" الوحيدة في تلك الحرب، هي بذاتها "أم الحقائق" التي يراد إخفائها عن أعين وعقول البشر، مهما تفاوتت بصيرتهم ودرجة ذكائهم من الأدنى إلى الأعلى، ومنذ بداية الحرب، دخلت روسيا في أكبر مواجهة جيوسياسية مع المنظومة الغربية، ووقعت تحت أضخم قائمة عقوبات عرفها تاريخ العلاقات الدولية، كما وضع الاقتصاد الروسي تحت ضغوط لكافة قطاعاته. ليس هناك رأيان أن إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، تنطوي على مقاربات جيوسياسية وتوازنات عالمية، لتحقيق مصالح بعض الدول وتسيء لمصالح دولا أخرى، في إطار الصراع المزمن بين روسيا والغرب والعكس، الذي يعود لحقب قديمة، لكن لا يوجد يقين لدى أطراف الصراع حول الآثار والنتائج، وحسابات الكلف والمنافع، وتبدو الولاياتالمتحدة الأكثر حماسة لإطالة أمد الحرب، وخصوصا إدارة الرئيس الديموقراطي جو بايدن التي تعاني من مشكلات داخلية عميقة، بينما أوروبا أكثر قلقا من إطالة أمد الحرب، فقد تؤدي إلى خلافات وانقسامات تهدد الوحدة الأوروبية، وتخلق مشكلات سياسية وضغوطات اقتصادية تتكشف في كل دول الاتحاد، وتنعكس على توجهات القوى السياسية، وقد برهن التاريخ القريب قدرة روسيا على تحمل أعباء حروب الجوار، بل والاستفادة منها واستثمارها على المدى المتوسط والبعيد، وهو ما يعزز مكانتها وقوتها الدولية. وخلال العقود الثلاثة الماضية من الهيمنة الأميركية، دخلت الولاياتالمتحدة حربين كبريين في العراقوأفغانستان، تحت ذريعة حرب الإرهاب، وتكبدت خسائر فادحة، ورغم تمكنها من الإطاحة بالنظام في البلدين لكنها لم تتمكن من تحقيق أهدافها. إن أهداف الغرب واضحة من إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، وذلك بتثبيت قواعد الهيمنة الغربية، والحيلولة دون بروز أي قوة منافسة للغرب، وذلك برفع كلفة الحرب الأوكرانية، بل وإلحاق هزيمة بروسيا من خلال حرب وكالة، وإغراق روسيا أكثر وتوريطها واستنزاف مواردها. وبحسب العديد من الخبراء فإن طول أمد الحرب سوف يبرز الخلافات والتجاذبات وتبدأ كل دولة تبحث عن مصالحها، وهكذا تكون روسيا قد حققت نصرا استراتيجيا، ويخرج بوتين بطلا منتصرا على الصعيد الشخصي بازدياد شعبيته باعتبار الحرب ضد روسيا حرب وجودية، إذ تصر روسيا على تصوير الحرب على أنها حرب ضد الغرب عموما، وهيمنته وثقافته وقيمه، تدار بالوكالة على الأرض الأوكرانية، وهو ما يعزز الشعور القومي الروسي. ولم تنحسر تأثيرات الحرب على البلدين فحسب، بل كان وقعها على العالم اقتصادياً وغذائياً وسياسياً أكبر ليزيد من حالة الاستقطاب السياسي، ويوصل الاقتصاد لحافة الانهيار، علاوة على ما سببته من أزمة غذائية، وتوصلت دراسة ألمانية حديثة إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية كلفت الاقتصاد العالمي 1.3 تريليون دولار في عام 2022. ووفقاً للدراسة التي نشرها المعهد الاقتصادي الألماني (IW)، فقد تأثرت الاقتصادات الغربية بشكل خاص حيث فقدت ثلثي إنتاجها العالمي. فيما تتوقع الدراسة خسارة إضافية بقيمة 1 تريليون دولار. وفي تقرير آخر صدر في 24 فبراير 2023، قدرت منظمة الاقتصاد والتنمية الدولية، أن الحرب الروسية ضد أوكرانيا ستكلف الاقتصاد العالمي 2.8 تريليون دولار، وستكون جلها في القارة الأوروبية. وبعد عام على هذه الحرب، بدا أننا أمام معركة طويلة وشاقة وعداوات دولية؛ بسبب شيطنة الولاياتالمتحدةلروسيا والعكس، وتخويف أوروبا الغربية بأطماع الدب الروسي في القارة الأوروبية، وجعل الغرب يقطع كل حبال الود والسياسة والعلاقات الاقتصادية مع موسكو، ويبدو أن واشنطن والغرب ربما يراهنون على الرأي العام الروسي الذي قد يتذمر عاجلاً أو آجلاً من هذه الحرب إلى حد الانقلاب على بوتين أو الإطاحة به في انتخابات عامة، غير أن هذا الخيار على واقعيته يبقى فرضية وسط مواقف الرأي العام والنخب الروسية التي تعتبر أن هذه المعركة ضرورية لهزيمة الشر. وتحاول موسكو فهم العقلية الأوروبية التي بدأت تتأفف من تبعات الحرب على اقتصاداتها تحديداً، إلى حد أن العديد من دولها بدأ يتساءل عن الجدوى من حرب خسّرتهم كثيراً من الأموال. ومع ذلك فإن أوروبا غير قادرة على السير عكس الاتجاه الأميركي الذي يدفع بقوة نحو دعم أوكرانيا حتى تظل صامدة وواقفة على أرجلها، ومصلحة واشنطن أن تأخذ الحرب سنوات ولا تتحقق فيها معادلة الحسم لصالح روسيا، لأن ذلك سيعني خروج موسكو من دائرة الانشغال الأميركي بها. والخلاصة أن مصير كييف بيد الولاياتالمتحدة والغرب، ويد روسيا ستظل على الزناد طالما لم تحقق مصالحها الاستراتيجية في أوكرانيا، حتى لو طال عمر القتال، وأوروبا على الأرجح بدأت تئن من فواتير تمويل الحرب وصعوبات تأمين إمدادات الطاقة والتكاليف الباهظة للحصول عليها من مصادر غير روسيا.