النموذج الأنجح في التعايش والمثاقفة بين المختلفين، موجود في المجتمع المكي والمديني، ولدرجة أنهم تحولوا إلى جزء أصيل من هوية مدنهم، وأصبحت العادات والتقاليد بين أهلها متقاربة إن لم تكن واحدة، وهذه التجربة تستحق الدراسة والتعميم على بقية المدن السعودية.. في 3 يونيو الجاري تم ضبط مواطن لإساءته إلى منطقة من مناطق المملكة، وقيل إنه تكلم في مساحة رياضية على السوشال ميديا بما لا يليق، وبما يشكل إضراراً بالنظام العام وتحريكاً للنعرات القبلية، وفي 12 أبريل من العام الحالي، قامت هيئة المرئي والمسموع بمخالفة صانع محتوى سعودي، وتحديداً على منصة (تيك توك)، وذلك بعد بثه كلاماً مشابهاً، وعوقب بنشره لاعتذار وإغلاق حسابه لمدة ستة أشهر، مع تغريمه ثمانية آلاف دولار، وتصرفات الرجلين تدخل في خانة الجرائم الكبيرة الموجبة للتوقيف، وتصل عقوبتها إلى السجن لمدة خمسة أعوام وغرامة قدرها 800 ألف دولار. المفارقة أن التعصب القبلي مورس في الحالتين من أشخاص لم يعرفوا القبيلة التقليدية، وهم في الغالب من جيل (البلايستيشن) والمدنية الحديثة، ووفق الإحصاءات السعودية الرسمية، فالوجود القبلي في أماكن البادية كان في حدود 2 % عام 1992، وتم تصفيره في عام 2010، باستنثاء من يرغبون في حياة البادية باختيارهم، أو رعاة البهائم، أو من يمارسونها من باب الترفيه، وبالتأكيد السردية القبلية مقبولة ولها احترامها، إذا كانت في إطارها المعقول، ولا تنطوي على تجاوز أو إضرار بالآخرين. الاعتقاد بأن التعصب القبلي أو العرقي محصور في الجزيرة العربية غير صحيح، فقد عرف البابليون العنصرية في قانون حمورابي، فالقانون أعفى الوجهاء من عقوباته ونفذها بقسوة على طبقات المجتمع الأقل حظاً، وفي اليونان القديمة قسم أرسطو الناس إلى فصيلتين: الأولى، الفصيلة اليونانية التي منحت العقل والإرادة، والثانية، الفصيلة البربرية ويمثلها بقية العالم، وهم بلا إرادة وتحركهم عضلاتهم، واستخدمها كمسوغ لاستعبادهم، واستعمالهم كآلات حية في الأعمال اليدوية، وفي الحضارة الصينية كان ينظر إلى سكان الأنهار المتعرجة، بأنهم انتهازيون ويغلب عليهم الطمع، لأن أنهارهم ليست مستقيمة في مساراتها، والرأي المختص في هذه الأيام، يرجح أن التفاعل بين الجينات الموروثة والبيئة التي يعيش فيه الشخص يلعب الدور الحاسم، فمن الممكن أن ينشأ توءم متطابق في بيئتين مختلفتين ويكون أحدهما ناسكاً والآخر عربيداً، والاختلافات الجينية بين الأعراق الإنسانية، لا تزيد على ربع في المئة، ما يعني أنهم نوع واحد من الناحية التشريحية والجينية والوظيفية والتطورية. القبيلة كفكرة لازالت موجودة في الأذهان، ولها احترامها وتقديرها بطبيعة الحال، وعلماء الأنثروبولوجيا يدرسونها كأيديولوجية نسب، مع أن وجودها الفيزيائي وحاكميتها لم يعودا كما كانا، لأنها كوحدة جامعة لكل أفرادها دخلت في نسيج الدولة، والتي يتحقق معها شرط الرخاء الاقتصادي والتبادل التجاري، وقد بدأ الشرطان في الدولة السعودية الثانية، وبالأخص في تجارة العقيلات وازدهارها، وتأسيسها لبيوت تجارية في العراق والأردن والهند، وأشارت دراسة سعودية أجريت قبل قرابة سبعة أعوام، إلى أن التعصب القبلي والمفاخرة بين القبائل بإظهار الوجاهة، يعتبر في قمة سلم الأعراف التي تؤثر سلباً على التنمية الاجتماعية، والتعصب القبلي قد يورط الشخص مع جماعات متطرفة أو خارجة على القانون. المنطقة العربية خارج الحدود السعودية لديها معاناة كذلك مع التعصب القبلي، والذي لا زال حاضراً بصورة فاعلة في الانتخابات البرلمانية الكويتية والأردنية، وحتى في ليبيا حضرت القبيلة بين المختلفين في الأزمة الحالية، وعادت القبيلة كرقم صعب في المعادلة السياسية، بعد سقوط دولة الرئيس صدام حسين في العراق، وفي لبنان تظهر القبيلة في صورة العائلة أو العشيرة أو الطائفة، والوضع في اليمن لا يختلف كثيراً، ولعل ما يميز المملكة في مراحلها الأولى والثانية والثالثة، أنها لم تقم على فكرة التعصب القبلي، فقد خرجت العائلة السعودية الحاكمة من قبيلة بني حنيفة، وهذه القبيلة تعتبر أول من استقر في مكان واحد وامتهن الزراعة بين كل القبائل العربية، وقد تخلصت من عصبيتها وشكلها القبلي قبل قيام الإسلام بمئتي عام، وهوية النسب الاجتماعي والمصاهرة لحكام المملكة طوال تاريخها، جعلتهم على مسافة واحدة من كل القبائل والحواضر. مع ذلك ورغم وجود الدولة الوطنية الحاضنة لكل القبائل، فالمشكلة بدأت أيام توطين البادية منذ عام 1912، وتقسيم المخططات في مجموعة من المدن السعودية بحسب الانتماء القبلي، ولهذا استمر التعصب للقبيلة وتطور داخل الإطار المدني، وزاد من وتيرته الشيلات القبلية، والمهرجانات التي كانت خاصة بالقبائل قبل تنظيمها وإشراف الدولة عليها، ولعل الحل الممكن يكون بتحديث البنية الحضرية داخل المدن، وغربلتها في المخططات الجديدة، بحيث تكون مشتملة على خليط من القبائل والحاضرة وغيرهم، وبما يسمح بتذويب الفروقات والاختلافات فيما بينهم، والأخذ بسياسة مماثلة في التوظيف والتعيينات، والنموذج الأنجح في التعايش والمثاقفة بين المختلفين، موجود في المجتمع المكي والمديني، ولدرجة أنهم تحولوا إلى جزء أصيل من هوية مدنهم، وأصبحت العادات والتقاليد بين أهلها متقاربة إن لم تكن واحدة، وهذه التجربة تستحق الدراسة والتعميم على بقية المدن السعودية، بجانب إقرار تشريع لمكافحة التعصب والتجاوزات القبلية والمناطقية.